من سيرة عمه ووالده.. قال الحبوبي: بعد الغزو البريطاني للعراق عام ١٩١٤ أفتى السيد محمد سعيد الحبوبي (1850-1915) وكثير من رجال الدين، من جملتهم الشيخ محمد الخالصي (١٨٨٨- ١٩٦٣) والسيد محمد الحيدري، بضرورة الجهاد ضد بريطانيا، وسار السيد الحبوبي مع الجماهير من النجف إلى عشائر الوسط في الشامية والشنافية والديوانية كمجاهدين .
سار فيهم إلى الشعيبة ، حيث كان تواجد الانكليز هناك، واشتبك معهم في معركة الشعيبة ، ولكن ميزان القوى كان ليس في صالحه، لأن القوات البريطانية كانت تمتلك طائرات ودبابات ، بينما العشائر لا تمتلك سوى بنادق ورشاشات قديمة. لقد قتلوا من البريطانيين الكثير لكن معركة الشعيبة قد خسرها المسلمون المجاهدون. توجد صورة التقطت قبل أن يذهب السيد الحبوبي للجهاد إلى الشعيبة، أخذت في الكوفة ، وهي صورة مشهورة. يظهر فيها السيد محمد سعيد الحبوبي وعن يمينه والدي السيد عبد الهادي الحبوبي، والثاني وعمي السيد حسين الحبوبي جد محمد فضل، والسيد محسن الحكيم ، وكلهم رجال دين . لقد أصيب السيد الحبوبي بمرض خطير ومات بسببه عام ١٩١٥، في الشعيبة ، وغسلوه في الناصرية في بيت العضاض ، ثم تم نقله من الناصرية إلى النجف . وكان الحبوبي ينفق على حركة الجهاد من ماله الخاص ، ويقول إننا نجتهد بالمال والنفس. وقد أرسل العثمانيون له أموالاً فرفضها. وقد باع بستاناً له في الكوفة ، وأوصي أخاه والدي عبد الهادي بقبض ثمنه وتحويله إليه في البصرة. من جملة الأشخاص الذين رافقوا الحبوبي هو السيد محسن الحكيم (١٨٨٩- ١٩٧٠). وكان بمثابة سكرتير ومحاسب للأموال وبيده الخزنة. ومعه جعفر والشيخ علي الشرقي (١٨٩٠- ١٩٦٤) والشيخ محمد رضا الشبيبي (١٨٨٩- ١٩٦٥). وكان الحكيم في مرحلة الدراسة ، ولم يبلغ مرتبة الاجتهاد آنذاك. واستمر في الحوزة إلى أن توفي المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني عام ١٩٤٦ فأصبح الحكيم المرجع الأعلى مكانه. كان والدي السيد عبد الهادي الحبوبي ، وهو معمم غير مجتهد، هو الذي دعم مرجعية السيد الحكيم معنوياً ، فقد صلى وراءه. ولما شاهد الناس أن السيد عبد الهادي الحبوبي يصلي وراء الحكيم ، صلوا وراءه لأنهم اعتبروها بمثابة ترجيح للحكيم لمقام المرجعية. كانت شخصية الحكيم تستتر خلف شخصية الاصفهاني ، فلما مات الأخير ، برزت شخصية الحكيم.
مع الزعيم عبد الكريم قاسم
-عبد الرزاق : أين كنت في يوم ١٤ تموز ١٩٥٨؟
- الحبوبي: كنت محامياً وممثل حزب الاستقلال في النجف الذي يتزعمه المفكر القومي والسياسي محمد مهدي كبة (١٩٠٠- ١٩٨٤) عام ١٩٤٦ . إذ عملت بالمحاماة منذ عام ١٩٥٥ ، وقد اندمج الحزب في جبهة الاتحاد الوطني عام ١٩٥٦. ، وكنت ممثلها في النجف. يوم ١٤ تموز اجتمعنا في مكتبي بالنجف ، وحضر الشيوعيون والبعثيون الذين كان يمثلهم محسن الشيخ راضي وآخر اسمه موسى صبار ، وأنا. قرروا تكليفي بالذهاب إلى بغداد ، وزيارة مقر الجبهة لمعرفة التعليمات الجديدة. يوم ١٥ تموز ركبت سيارة ، وتوجهت إلى بغداد، ومررت بوزارة الدفاع ، فإذا الجماهير مجتمعة حولها . خابرت السياسي محمد صديق شنشل (١٩١٠- ١٩٩٠) ، الذي صار وزير الارشاد في حكومة قاسم ممثلاً عن حزب الاستقلال في الوزارة . وكان نوري السعيد هاربا ، وفي ذلك اليوم تم القبض عليه ، وقتل في اليوم نفسه. التقيت صديق شنشل الذي أوصاني بالمحافظة على أملاك الدولة في النجف. وكان المتظاهرون قد أحرقوا محطة الكيلاني للوقود في بغداد. تسلمت هذه التعليمات ، فعدت إلى النجف وأبلغت أعضاء الجبهة بها. تطورت الأمور اثر نشوب خلاف بيننا وبين الشيوعيين في جبهة الاتحاد الوطني ، واقترحت الذهاب إلى بغداد لحل الخلاف ، لكن الشيوعيين قالوا: لن نذهب معكم ، ولكن نذهب كحزب شيوعي. ذهبنا إلى بغداد كجبهة ، وقابلنا عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في وزارة الدفاع. كان جالسا في غرفة كبيرة ، في وسطها طاولة طويلة تسع الضيوف كلهم ، جلس عبد الكريم في مقدمة الطاولة ، وإلى جانبه عبد السلام ، وخلفه كان يقف مرافقه جاسم العزاوي. تحدث الزعيم عن الثورة وأهدافها ، وتحدثتُ عن الوضع السياسي ، وأننا نمثل الجبهة ، ونبارك لكم نجاح الثورة. وكان قد بدأ يظهر خلاف بين السياسيين القوميين والشيوعيين، وحدثت مصادمات بينهم. فتناول عبد الكريم هذه الظاهرة ، وتحدث بسرعة ، حتى إن الزباد ظهر في جانب شفتيه. فأشار المرافق جاسم العزاوي إلى أحدهم بجلب ماء إلى الزعيم ، فأتى بالماء وشرب ، واستمر بالكلام . بعد أن انتهى من الحديث ، أخذ يستمع لأسئلة الحضور.
ألقيتُ كلمة الوفد بحضور عبد الكريم وعبد السلام. أثناء طرح الأسئلة حدثت مشكلة، وهي أن أحد أعضاء الوفد لفت النظر إلى الجبهة المشكلة من الشيوعيين والقوميين في كربلاء والنجف. كان من ضمن الوفد ، الذي بلغ أربعين شخصاً، كان الشيخ سليمان اليعقوبي ، وهو لبناني الأصل ، الذي رفع يده قائلاً: أريد طرح سؤال. فقال له عبد الكريم قاسم: تفضل ، فقال : أن النجف وكربلاء مدينتان مقدستان ، ويأتيهما الزوار من كل مكان، وتحدث احتكاكات بين الجماعات السياسية ، بعضهم يحمل أفكاراً هدامة ، هؤلاء المخربين يعتدون على الإسلاميين. عندها انتبه عبد الكريم قاسم ، فقاطعه وأسكته بقوله: ماكو مخربين ، هؤلاء وطنيون. كان الشيخ سليمان يقصد بالمخربين الشيوعيين. سكت الشيخ على الفور. ولم يكن الشيوعيون من ضمن الوفد لأنهم رفضوا القدوم معنا. كان الوفد خليطاً من توجهات مختلفة . خرج عبد الكريم قاسم غاضباً وتركنا. وبقي عبد السلام عارف معنا ، الذي أخذ يسأل عن الشيخ سليمان الذي أسكته عبد الكريم. ثم خاطبه قائلاً: شيخنا ، أنا عرفت قصدك بالمخربين. هؤلاء الكلاب، لأكسرّن ظهورهم . فالذين وصفهم قاسم بالوطنيين ، وصفهم عارف بالكلاب . وهذا ما يوضح عمق الخلاف بينهما في وقت مبكر. استمرت الجلسة قرابة ساعتين ، وكان عبد السلام جالساً باحترام يستمع لحديث الزعيم ، فلما غادر الزعيم القاعة ، أخذ عبد السلام يتكلم عما في نفسه بصراحة. وكان عبد السلام يضع كتفه خلف كتف عبد الكريم ، ولا يتقدم عليه ، احتراماً منه إليه.
عبد السلام عارف وخلافه مع الزعيم
إن عبد الكريم قاسم هو الذي جاء بعبد السلام عارف إلى جماعة الضباط الاحرار. كان عبد الكريم قاسم يجد في نفسه أن الشيوعيين أصعدوه إلى السلطة ، لكن عبد السلام عارف أخطأ خطئاً كبيراً ، فقد كان يسافر للمحافظات، ويلقي خطابات ارتجالية ، وبلا مناسبة يمتدح جمال عبد الناصر. وكان الشيوعيون لا يرتاحون لذلك ، فيقومون بإيذائه. وكان يتعمد عدم ذكر عبد الكريم قاسم في خطاباته . فحدثت مشاكل بينهما ، أجّجها الشيوعيون ، وكانوا يوصلون أخباره وخطاباته لعبد الكريم قاسم. وكانت لديهم جريدة (الجمهورية) يصدرها البعثيون ، تتصدرها صور عبد السلام ، ولا تنشر صور الزعيم. الأمر الذي أعطى انطباعاً لدى قاسم بأنه مهمل ، والشيوعيون ركزوا هذه الفكرة لديه. فدعموه ورفعوه بإمكانياتهم الإعلامية والثقافية . وجاءت حركة العقيد عبد الوهاب الشواف (١٩١٦- ١٩٥٩) في ٨ آذار ١٩٥٩ في الموصل ، التي حظيت بدعم جمال عبد الناصر ، وحدثت بسببها مذابح دموية. لقد أمسك بي الشيوعيون في النجف ، وأرادوا سحلي في الشارع لأني قومي، ولكن جاء من انقذني. هربت إلى السعودية ، ومن هناك إلى مصر. بقيت في مصر ثلاث سنوات ، وعدت بعد انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ الذي أطاح بعبد الكريم قاسم. كان عبد الكريم قاسم شخصاً وطنياً ، وليس شيوعياً ، لكن الشيوعيين استغلوه ، كان حكمه فردياً .
-عبد الرزاق : انت شاهد على مرحلة سياسية وتاريخية ، كيف تفسر ظاهرة العنف في العراق؟
الحبوبي : أجبت على هذا السؤال في كتابي (رسالة اعتذار إلى الشعب العراقي) . وقد طبعت في دار الحكمة .
-عبد الرزاق: حدث لقاء بين عبد الكريم قاسم وميشيل عفلق، حضرته شخصيات عسكرية وبعثية. ما طبيعة هذا اللقاء؟
-الحبوبي: جاء وفد بعثي من سوريا ، برئاسة عفلق . زار العراق بعد انتصار ثورة تموز. ثم اجتمع عفلق بالقيادة البعثية التي فيهم فؤاد الركابي (١٩٣١-١٩٧١) وخالد علي الصالح.
-لو قدّر فشل ثورة تموز ، وتأخر عبد الكريم في التحرك ، وكان عبد السلام في بغداد؟
-الحبوبي: كان سيعدم عبد السلام ، من قبل النظام الملكي .
مصرع العائلة المالكة
-لماذا تبرأ عبد الكريم من مقتل العائلة المالكة؟
-الحبوبي: لأنه لم يكن موجوداً في القصر حيث وقعت الحادثة. إن من قتل العائلة المالكة ضابط لا علاقة له بحركة الضباط اسمه النقيب عبد الستار سبع العبوسي (١٩٣٠- ١٩٧٠) ، سمع بأن الجيش حاصر قصر الرحاب ، وكان الجيش موجوداً في معسكر الوشاش ، الذي أصبح حديقة الزوراء. خرج العبوسي مع ثلاثة ضباط ، وأخذوا معهم مدفعين ، وساروا باتجاه قصر الرحاب. فقدموا مساندة للقوات التي هاجمت القصر ، وأطلقوا قذائف قدمت مدخل القصر . وقد زرتُ القصر ، وشاهدتُ أثر القذيفتين . دخل العسكر إلى القصر ، وحدث حوار مع ولي العهد عبد الإله بن علي (١٩١٣- ١٩٥٨) الذي أعلن الاستسلام. وأعطى عبد الإله أمراً لقائد الحرس الملكي بامرني بأن لا يرد على الجيش. وقال للمهاجمين: نحن نستسلم ونغادر القصر . وكانت العائلة المالكة تضم الملك فيصل الثاني (١٩٣٥- ١٩٥٨) والأمير عبد الإله وزوجته هيام الخيزران واخته الأميرة عابدية (١٩٠٧-١٩٥٨) وأمه الملكة نفيسة زوجة الملك علي بن الشريف حسين التي كانت ترفع المصحف ، عمرها ٧٨ عاماً. وكان يرفعون الرايات البيضاء ، لكن العبوسي أطلق النار عليهم وأرداهم قتلى في لحظات. وقد ندم العبوسي على فعلته ، وأقدم على الانتحار عام ١٩٧٠. بعد حادثة قصر الرحاب أعطى عبد السلام عارف توجيهاً قال فيه: خذوهم إلى المقبرة . ولم يكن عبد الكريم موجوداً في بغداد بعد ، لأن الجريمة وقعت صباحاً.
-عبد الرزاق: نقل لي من عائلة الجلبي بأن الحاج عبد الهادي الجلبي بعد أن عاد إلى بغداد عام ١٩٥٩ ، وزار عبد الكريم قاسم ، عاتبه على قتل العائلة المالكة التي كان على صلة وثيقة بها ، فأجابه عبد الكريم : لم أفعل ذلك ، عبد السلام عارف هو من قتلهم.
لقاؤه مع عبد الناصر
-عبد الرزاق: كيف تم لقاؤك مع جمال عبد الناصر؟ وكيف استقبلك؟ كلاجئ أم معارض سياسي؟
-الحبوبي: لم يكن باستطاعتنا كلاجئين مقابلة عبد الناصر ، عدا فائق السامرائي (١٩٠٨- ١٩٧٩) الذي كان سفيراً في القاهرة بعد ١٤ تموز ١٩٥٨، كان متواصلاً معه . ذهبت إلي القاهرة لاجئاً منذ عام ١٩٦٠ حتى ١٩٦٣ ، فلم أقابله في تلك الفترة. لقد قابلت عبد الناصر لأول مرة بعدما صرت وزيراً للشؤون البلدية والقروية. فقد كنت ضمن وفد عراقي ذهبنا إلى مصر في تموز ١٩٦٥ للتهنئة بثورة ٢٣ تموز ١٩٥٢ . كان برئاسة رئيس الوزراء طاهر يحيى التكريتي (١٩١٣- ١٩٨٦) ووزير الخارجية ناجي طالب (١٩١٧-٢٠١٢) وشكري صالح زكي المعيّن سفيراً للعراق في مصر ، في عهد الرئيس عبد السلام عارف. صافحنا عبد الناصر واحداً بعد الآخر ، والابتسامة لا تفارق وجهه منذ دخل الصالون ، ويردد أهلاً وسهلاً ، الحمد لله على السلامة . ثم سأل عن صحة عبد السلام عارف ، فأجابه طاهر يحيى أنه بخير ويبلّغ سيادتك السلام ، وقد حمّلنا التهنئة بهذه المناسبة ، فأجاب: شكراً لكم جميعاً. لقد كانت زيارة مجاملة ، إذ لم يكن عند الوفد موضوع معين أو قضية خاصة يتحدث فيها. وحرص عبد الناصر على لقاء الوفد وتكريمه وشكره. لكن طاهر يحيى أخذ يتحدث عن الخلاف الذي حصل بينه وبين عبد السلام عارف وبين عبد الكريم فرحان (١٩٢٢- ٢٠١٥)، الذي كان وزيراً للثقافة والإرشاد، في شأن من شؤون الإذاعة العراقية . استقال على اثره عبد الكريم فرحان ، ثم ترك العراق ، وذهب إلى القاهرة . فكان أن استقال ، تضامناً معه ، كل من الوزراء صبحي عبد الحميد ، أديب الجادر ، فؤاد الركابي ، عزيز الحافظ ، عبد الستار علي الحسيني. وأفاض طاهر يحيى في شرح القضية وملابساتها ، وكأنه يريد أن يطمئن عبد الناصر أن الحدث لم يخلّف ذيولاً أو يعقب مشاكل ، رغم تسّرع عبد الكريم فرحان ، وأن الأمور ماشية وكلنا أخوة.أجاب عبد الناصر: بأنه قد فوجئ هو أيضاً ، عندما أُبلغ أن عبد الكريم فرحان وصل القاهرة بشكل فجائي ، وأنه زعلان ومستقيل. وأبلغنا عبد الناصر بأنه قد انزعج من هذا التصرف المتسرع ، وأنه يتمنى الآن أن تكون النفوس قد هدأت ، والعلاقات الأخوية سادت ، وألا تحصل الوقيعة بينكم ، فالإذاعات الأجنبية بثت وأعلنت أن الوزراء الستة المستقيلين هم من الناصريين . ثم أضاف في ضرورة الحفاظ على العلاقات الأخوية الطيبة ، وضبط الأعصاب ، والعمل لمصلحة البلد.سكت عبد الناصر ، فاستأذنتُ بطلب الكلام ، فقال: تفضل أستاذ أحمد، فقلت: لا أريد سيادة الرئيس التعرض للموضوع الذي طرحه الأخ طاهر يحيى عن الخلاف وأسبابه ، ومن المسؤول عنه ، فأنا يا سيادة الرئيس أحد الوزراء الذين قبلوا الاشتراك فيها ، بعد استقالة الاخوة ، وأنا قومي ناصري ، فانتبه عبد الناصر لكلمة (ناصري) ، والتمعت عيناه ، وبدا على إخواني أعضاء الوفد كأنهم فوجئوا بهذا التعبير ، ثم واصلت .. نعم أنا ناصري ، إذا كانت الناصرية تعني العمل على تحقيق أماني أمتنا العربية في الوحدة والحياة الحرة الكريمة ، ومحاربة الاستعمار بأي شكل كان . وقد قبلتُ المسؤولية بناءً على شروط كنا قد وضعناها في الحزب العربي الاشتراكي الذي أنتمي إليه. صحيح أن الحكم في العراق هويته قومية ، وتنظيمه السياسي ( الاتحاد الاشتراكي العربي) ، والحكومة تضم عناصر قومية وعسكرية ومدنية ، ولكن المشكلة أو المشاكل ليس لها أساس عقائدي أو خلاف أيديولوجي، بقدر ما هي ذات طابع شخصي ومزاجي بالدرجة الأولى ، ولكنها تُبرقع بخلاف أيديولوجي ، وإلا ما معني الشللية بين الضباط؟ فتسمع هذه جماعة الضابط فلان .. وهذه جماعة الضابط فلان .. وكل الجماعات ينتظمها في النهاية توجه فكري وعقيدي واحد ، فعلام إذن الاختلاف إن وجد ، وهو موجود فعلاً ، السبب شخصي ، وليس للقومية دخل فيه ، وهي منه براء.. لقد لفت نظره إلى مفردة (الناصري) إلى درجة أن أعضاء الوفد العراقي انزعجوا مني. قلت: أنا ناصري بمعنى أن القومية العربية مرتبطة باسم شخصك وآنت تاج العروبة. انزعجوا وقالوا: كيف تقول ناصري؟ أنت عراقي. كان رأيي هو تكريم عبد الناصر وأنه فخر القومية العربية. في اليوم الثاني للزيارة ، دعينا إلي الحفل السنوي الذي أقيم في نادي الضباط في الزمالك برعاية الرئيس جمال عبد الناصر ، وغنت فيه أم كلثوم . وأثناء الاستراحة التقيت بعبد الناصر وجهاً لوجه ، فسلمت عليه وصافحته فقال ضاحكاً: كيف أحوال أخونا الناصري ، أجبته : بخير الحمد لله .
زوجة عبد الناصر شيعية
دعي الوفد العراقي لحضور الاحتفالات في الاسكندرية ، وأقام لنا الرئيس عبد الناصر مأدبة غداء في فيلته في شاطئ المعمورة ، حضرها المصريون رئيس الوزراء علي صبري (١٩٢٠- ١٩٩١) ، وحسين الشافعي (١٩١٨- ٢٠٠٥) وزكريا محي الدين (١٩١٨- ٢٠١٢). وأضفت علينا جلسة الشاطئ ومنظر البحر مزيداً من التحرر في الحديث والنكتة والضحك ، ونحن جلوس على رمل الشاطئ وماء البحر يلامس الأقدام ، فجاء عبد الناصر بالبنطلون والقميص وجلس معنا ، وراح يتحدث وكأنه يعرفنا ونعرفه منذ زمن.دعينا إلى مائدة الطعام ، وقبل أن تمتد الأيدي ، أراد شكري صالح زكي أن يضفي جواً من المرح المستمر ، وإذا به يوجه الكلام للرئيس جمال عبد الناصر قائلاً: سيادة الرئيس ، الأخ أحمد الحبوبي لا يأكل من هذا السمك (يقصد سمكة كبيرة تتصدر المائدة تشبه سمك الجرّي) ، المعروف في العراق الخالي من الصدف. فاستفسر عبد الناصر عن سبب عدم أكل الحبوبي من هذه السمكة؟ أجابه شكري صالح زكي: لأن الحبوبي شيعي ، فأجابه عبد الناصر وبسرعة وباللهجة المصرية : (ومالهم الشيعة؟ أنا مراتي شيعية ، وأصلها من الكاظمية .. من عندكو ..). ثم التفت لي رحمه الله يطلب جواباً عن عدم أكل السمكة ، فأجبته : آن الشيعة يكرهون أكل السمك الذي ليس له قشرة أو فلس ، كأن يكون أملساً كهذه السمكة الخالية من القشرة. هذه الحادثة تكررت عام ١٩٦٩ مع السيد موسى الصدر ، بعد مشاركته في المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة ، حيث كان مدعواً إلى مائدة عبد الناصر في بيته بمنشية البكري في القاهرة ، وكان على المائدة بعض ثمار البحر ومن بينها الروبيان والجمبري ، الذي يسمى بالعراق أبو الجنيب ، فلاحظ عبد الناصر أنه يتجنبه ، فسأله إذا كان يعافه؟ فأجاب: سيادة الرئيس ، إنه عندنا (الشيعة) مكروه فلا نأكله . ابتسم عبد الناصر وقال: زي اللي عندي في البيت تماماً ، ويقصد زوجته تحية. وحسب بعض المصادر أن زوجة عبد الناصر السيد تحية محمد كاظم هي حفيدة العلامة الشيعي كاظم رشتي، وهو سيد هاشمي ، هاجر أجداده إلى ايران ، وسكنوا مدينة رشت كتجار، وبسبب خلافات فقهية هاجر الى مصر وسكن حلوان . ومن أحفاده السيدة تحية والصحافية الشهيرة صافي ناز كاظم والدكتورة عميدة كلية الإعلام بجامعة القاهرة السابقة جيهان رشتي. وذكرت عايدة رزق، ابنة الراحلة عناية كاظم، شقيقة زوجة عبدالناصر، البالغ عمرها 65 سنة ، ذكرت أن عمر خالتها، زوجة الزعيم المصري، كان 11 سنة حين توفي والدها الإيراني في 1937 ومن بعده بعامين توفيت والدتها المصرية فاطمة، وهي من مدينة طنطا البعيدة 90 كيلومتراً في الشمال المصري.