هذه الاعترافات والذكريات حصيلة عدة جلسات مع المحامي والسياسي العتيد السيد أحمد هادي الحبوبي، ربما هو القومي العربي والعراقي الوحيد الذي شهد عهوداً وفصولاً من تاريخ العراق السياسي المعاصر.. شارك في وزارات وحكومات وجبهات سياسية في العهدين الملكي والجمهوري .. طورد من قبل السلطات الحاكمة ، واختار المنفى منذ عام ١٩٦٠ ، وعاد بعد انقلاب ١٩٦٣ ، وتولى مناصب وزارية في عهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف .. قضى ثلاثين عاماً لاجئاً سياسياً في بلد يحبه كثيراً ويعشق زعيمه جمال عبد الناصر ، وعاد إلى العراق بعد سقوط صدام ، ليلتقي أهله وأحبته وأصدقاءه، وليعانق المحلات التي فارقها في النجف وبغداد، وليبدأ بسرد ذكرياته عن تلك الحقبة التاريخية.
اعتقال في دار السينما
بقي الحبوبي متنقلاً بين بيوت الأصدقاء والمعارف لتعذر إقامته في أي فندق ، لكنه بات مطلوباً من قبل الشرطة. في أحد الأيام قضى الليل عن صديقه أسعد عبد الحافظ في الأعظمية ، وفي الصباح راح يتجول في شوارعها. وفجأة وقفت سيارة فولكس واكن ، وناداه أحدهم بكنيته : أبو شهاب ، أبو شهاب. وكان الحاكم عبد الجبار الجعفري ، الذي دعاه لركوب السيارة معه ، ليوصله إلى المكان الذي يقصده.
اتجه السائق صوب شارع الرشيد ، وقريباً من دار السينما ، التي تعرض فيلم (من الآن وإلى الأبد) ، فرغب في مشاهدة الفيلم ونزل من السيارة . وفي السينما اقترب شابان وضابط شرطة ، فعلم أنهم يقصدون اعتقاله ، فلم يهرب ، بل بقي جالساً في مكانه ، فسأله الضابط عن اسمه ، فأجاب: (أنا المطلوب ، وأنا تحت أمرك). كان الشابان من عائلة الحداد ، وهما شيوعيان ، قد فرحا باعتقاله. اصطحب الضابط الحبوبي إلى (مركز شرطة العبّخانة) ، وأجرى تحقيقاً سريعاً معه ، ثم أودعه الموقف. وحالما علم الموقوفون بأن الحبوبي محامي ، اجتمعوا حوله يطلبون النصح في التهم الموجهة إليهم.
في المساء جاء حسين المختار إلى الموقف ، وطلب من الحبوبي أن يخرج معه ، ومعي حاجياته ، وقال له: سوف أخرجك من الموقف ، وأضعك في غرفة الضابط (سعد الله) الذي ألقى القبض عليك ، فهو من أهالي البصرة. ونشأت علاقة صداقة بين الحبوبي والضابط الذي اعتقله ، وقام بتلبية احتياجاته ومنها استخدام الهاتف.
إلى معتقل أبو غريب
كان الشيوعيون قد بادروا في عملية نقل الحبوبي إلى النجف ، ليُحقق معه مع بقية المتظاهرين المعتقلين. وصلت برقية النقل من الحاكم العسكري العام اللواء الركن أحمد صالح العبدي (١٩١٢- ١٩٦٨)، فاتصل الحبوبي بزعيم حزب الاستقلال محمد مهدي كبة ، للسعي لإلغاء البرقية ، لكن محاولته باءت بالفشل. وساءت الأمور بالنسبة للقوميين عندما أعفي وزير المعارف الدكتور جابر عمر العاني (١٩٠٩- ١٩٩٣) من منصبه ، وأعتقل كثير من القوميين. تم نقل الحبوبي إلى مديرية شرطة بغداد بهدف تسفيره إلى النجف ، فاستلمه معاون مدير شرطة بغداد عباس الدجيلي ، وأبقاه في غرفته ، وطمأنه أنه سيعمل على نقله إلى أبو غريب ، ليكون مع بقية المتهمين الذين جُلبوا من النجف إلى أبو غريب قبل يومين.
وصل الحبوبي إلى سجن أبو غريب، واستقبله زملائه بالهتاف والتصفيق ، وهناك وجد قاعة كبيرة ، تتوفر فيها أدوات حلاقة وفراش. كما أعطيت قاعة مماثلة للمتظاهرين الشيوعيين المتهمين في نفس القضية.
وذات صباح تم نقل الحبوبي من أبو غريب إلى بغداد في سيارة جيب عسكرية. وصلت السيارة إلى مديرية الشرطة العام ، وبقي حتى المساء تحت التحقيق الدقيق ، ثم عادت السيارة بالحبوبي إلى أبو غريب.
كانت تظاهرات الشيوعيين تجوب العاصمة والمدن العراقية تأييداً لاعتقال عبد السلام عارف لاتهامه بمحاولة اغتيال الزعيم قاسم. وفي قضاء أبو غريب ، غربي بغداد ، كانت التظاهرات ترفع شعارات (خمسة بالشهر ماتت القومية) و (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) أي الحبال الجاهزة لسحل المتآمرين.
تقدم الحبوبي بالكثير من العرائض إلى المجلس العرفي الأول ، يطالب فيها إطلاق سراح بعض المعتقلين بكفالة ، خاصة أن الكثيرين منهم طلبة وأساتذة وعمال وكسبة ، ولهم عوائل يحملون مهمة رزقهم وعيشهم. وقد سمح المجلس العرفي بإطلاق سراح بعضهم بكفالة ، فيما بقي الحبوبي وأخوه مهدي وناصر أبو غنيم في المعتقل فترة زمنية طويلة ، ثم أطلق سراحهما ، وبقي الحبوبي وحده في القاعة الكبيرة.
تم تحديد موعد لمحاكمته ، ونُقل إلى المحكمة، وتفاجأ الحبوبي بوجود عدد من أصدقائه المحامين جاءوا للترافع ضده، فأصيب بخيبة أمل . طالب المدعي العام بإعدامه ومن معه ، وتقدم الكثير من شهود الزور ، أقسم بعضهم أنهم رأوا الحبوبي يمسك بمسدسين في التظاهرة. إزاء ذلك الموقف تقدم الحبوبي بطلب إطلاق سراحه بكفالة كونه المعيل الوحيد لوالدته ولإخوته القصّر . تمت الموافقة على الطلب ، بعد تقديم كفيل ، وهكذا بعد ستة أشهر في أبو غريب ، غادر الحبوبي المعتقل .
الهروب إلى السعودية
بقي الحبوبي في بغداد ، وعند حدوث حركة الشواف عام ١٩٥٩ وفشلها ، بادر الشيوعيون للانتقام من القوميين لكون الشواف كان قومياً. خشي الحبوبي على نفسه ، واختبأ لفترة من الزمن ، ثم فكر بمغادرة العراق ، هرباً من التصفيات.
في ٢٣ آذار ١٩٥٩ ركب الحبوبي شاحنة كبيرة تحمل أكياس الرز والتمور متوجهة من النجف إلى السعودية. وكان الوقت شهر رمضان ، فتحركت قبل الغروب ، لانشغال الناس في الإفطار. وقد ارتدى دشداشة وغترة ونعالاً برجله ، كي يبدو كمساعد للسائق ، كي لا يلفت نظر السواق النجفيين.
بعد رحلة اتسمت بالمجازفة عند نقاط السيطرة ومراكز الشرطة ، توجه الحبوبي إلى المدينة المنورة ، حيث يوجد أقرباء له هناك. وطلب منه مدير الشرطة ان يتوسط لدى الملك وولي العهد ليوافقوا على لجوئه للمملكة.
وصل خبر وصوله إلى قرية (رفحا) وغيرها من القرى الحدودية ، التي كانت تقيم فيها جاليات عراقية تتعاطى التجارة والحلاقة والخبازة والنجارة. فخرجوا في تظاهرة احتجاج إلى الحاكم يطلبون منه طرد الحبوبي من الأراضي السعودية ، وإعادته إلى العراق ، لأنه بزعمهم مجرم هارب ومطلوب من السلطات العراقية ، فزجرهم الحاكم ، وطلب منهم الخلود إلى السكينة والانصراف إلى أعمالهم، وقال لهم: إن الرجل ضيف عندنا إلى أن يقول الملك كلمته ويتخذ قراره فيه.
بقي الحبوبي في ضيافة عشائر رفحا ، حتى وصلته موافقة الأمير فيصل (١٩٠٦- ١٩٧٥) ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ، وطُلب منه التوقيع على ورقة يتعهد فيها بعدم القيام بأي نشاط سياسي. سافر الحبوبي إلى الرياض ، ثم إلى جدة ، ثم تشرف بزيارة المدينة المنورة ، ووقف على قبر الرسول (ص) ، وراحت دموعه تنهمر، وعلا نحيبه وأجهش بالبكاء بصوت عالٍ.
أثناء وجود الحبوبي في السعودية ، تعرض الزعيم عبد الكريم قاسم عام ١٩٥٩ لمحاولة اغتيال. الأمر الذي تعرض فيه القوميون إلى الملاحقة والاعتقالات والمحاكمات التي يديرها فاضل عباس المهداوي. وقد لجأ كثير من القوميين إلى مصر ، فعزم الحبوبي على اللحاق بهم ، فطلب من حاكم المدينة السماح له بالسفر إلى مصر ، فأجابه بأن الأمر ليس بيده ، وانما بيد الأمير فيصل ، فوعده بكتابة طلب إلى فيصل ، لكن الجواب لم يأت.
اضطر الحبوبي إلى السفر إلى الرياض ، وبمساعدة من عبد الرزاق الحمود ، توجه إلى مجلس الأمير فيصل. وهناك تعرف على أحمد زكي يماني (١٩٣٠- ٢٠٢١) ، الذي قال له : أنا نصفي عراقي ، لأني متزوج من سيدة عراقية من آل فيضي ، وأشتغل مع سمو الأمير فيصل ، بعد أن أنهيت دراستي في أمريكا.
دخل الحبوبي مجلس فيصل ، وكان الوحيد الذي يرتدي السترة والبنطرون، وسلّم على فيصل ، فقال له: أهلا بالعراقي. شرح الحبوبي له رغبته بالسفر إلى مصر ، وشكر المملكة على استضافته. فقال فيصل: خير إن شاء الله. مر أسبوع ولم يأت رد من فيصل ، فكرر الحبوبي المحاولة ، ودخل المجلس ثانية ، وإذا بفيصل يسأله: أما زلت مصراً على السفر إلى مصر؟ فأجابه: نعم يا طويل العمر. ولكن لم يحدث شيء ، ولم تأت موافقة السفر.
لم يطق الحبوبي الانتظار ، فذهب إلى مجلس الأمير فيصل ، الذي عرض عليه البقاء في المملكة والعمل في المحاماة ، وفي أي مكان يختاره ، في الرياض ، في جدة. كرر الحبوبي طلبه بالسفر إلى مصر ، فقال له: الله معك يا ولدي. في ٩ مايس ١٩٦٠ وصل الحبوبي إلى مصر ، والتقي العراقيين اللاجئين. وهذه له قصة يرويها الحبوبي في سرديته التي حكاها لي.
نشوء القومية العربية
القومية العربية أو العروبة في مفهومها المعاصر هي الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح وبأن دولة عربية واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج. ايمان العرب بأنهم أمة مفهوم قديم وربما من الصعب معرفة بداياته، فكان يظهر افتخار العرب بجنسهم في الشعر العربي، وفي عهد الإسلام تجسدت القومية بشعور العرب بأنهم أمة متميزة ضمن الإسلام، وزاد هذا الشعور خلال العهد الأموي.
تعود جذور تأسيس القومية العربية إلى التأثر بالقومية الألمانية التي طرحت كأيديولوجية سياسية تاريخية وحالية في السياسة النمساوية. نشأت في القرن التاسع عشر كحركة قومية بين السكان الناطقين بالألمانية في الإمبراطورية النمساوية المجرية. إنه يفضل العلاقات الوثيقة مع ألمانيا، التي تعتبرها الدولة القومية لجميع الناس من أصل ألماني، وإمكانية دمج النمسا في ألمانيا الكبرى.
لقد جرى استيراد الفكرة مع تعريبها لتناسب البيئة العربية ، وسبيل للخروج من الدولة العثمانية التي كانت تتخذ من الخلافة نظاماً سياسياً ، ومن الإسلام منهجاً في الحكم والإدارة. وكانت الدولة العثمانية تهيمن على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر والحجاز واليمن وشمال أفريقيا. فالقومية وُجدت لتكون مقابل الإسلام ، أي علمانية ضد الدين والايمان. وكان المنظّرون للقومية يقولون أن الدين يفرق بسبب تنوع الأديان والمذاهب في المنطقة العربية ، بينما بإمكانهم الانضواء تحت لواء القومية العربية العلمانية ، دون المساس بالأديان والمذاهب.
في العصر الحديث، جسّدت هذه الفكرة بعقائد ايديولوجية مثل الحركة الناصرية والتيار البعثي اللذين كانا الأكثر شيوعاً في الوطن العربي خصوصاً في فترة أواسط القرن العشرين حتى نهاية السبعينات، والتي تميزت بقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا ، وشهدت محاولات وحدوية أخرى كثيرة. اكتسبت القومية العربية مدًا جديدًَا شعبيًا نتيجة ثورات الربيع العربي وظهور تيار شعبي عربي يدعو لوحدة عربية يقودها الشعب، وليس الأنظمة المتسلطة التي ركبت موجة القومية دون أن تنجز شيئاً يذكر في هذا الاتجاه.
كان رواد ومؤسسي القومية العربية من المسيحيين في بلاد الشام مثل الأديب ناصيف اليازجي (١٨٠٠-١٨٧١)، بطرس البستاني (١٨١٩- ١٨٨٣)، نجيب عازوري (١٨٧٣- ١٩١٦)، وميشيل عفلق (١٩١٠- ١٩٨٩). ويرى البعض أن هدفها الأساسي كان هدم الدولة العثمانية، إذ كانوا يُعدّون فيها (أهل ذمة)، ويُعاملون بدرجة أدنى من المواطنين المسلمين وكانوا يُحرمون من تولي المناصب القيادية في الدولة.
يؤمن القوميون العرب بالعروبة كعقيدة ناتجة عن تراث مشترك من اللغة والثقافة والتاريخ إضافة إلى مبدأ حرية الأديان. وأصبحت الوحدة العربية شعار القوميين العرب.
حزب الاستقلال
وهو حزب قومي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية في العهد الملكي، ومعروف بتوجهاته القومية. كان ابرز الشخصيات التي أسست الحزب هو محمد مهدي كبة (1900 -1984) وهو مفكر قومي وسياسي عرف بإخلاصهِ الوطني ، ومحمد صديق شنشل (1910 -1990 ) وهو الاخر سياسي معروف من الخط القومي في جماعة الأهالي ، وفائق السامرائي (1908 -1979 ) حقوقي وسياسي عربي قومي كان له دور فاعل في الحياة السياسية العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي ، وخليل كنة (1910 -1995 ) الذي ترك الحزب فيما بعد واتجه في اتجاه معاكس لتوجهات الحزب وكثير من السياسيين العراقيين ذوي الاتجاه القومي العربي. في 19 نيسان 1946 اجيزَ الحزب من قبل السلطات وعقد أول مؤتمر له وانتخب محمد مهدي كبة رئيساً للحزب . وفي 4 آب 1946 صدر العدد الأول من جريدة (لواء الاستقلال) لسان حال الحزب ، واستمرت في الصدور حتى تم الغاؤها في 29 أيلول 1954 ، على اثر صدور مرسوم الغاء الأحزاب والجمعيات في العام نفسه ، فأصدر الحزب جريدة (صدى لواء الاستقلال). وبسبب ما آلت اليه الأوضاع في فلسطين حيث صدر قرار التقسيم من الأمم المتحدة عام 1947 وإعلان دولة إسرائيل 1948 التف حول الحزب عدد كبير من القوميين العراقيين.
اهتم حزب الاستقلال بتنمية الوعي السياسي عند افراد الشعب العراقي والدفاع عن الحريات والدعوة الى المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات. كما اهتم بتنمية الوعي القومي والدفاع عن عروبة فلسطين ودعا الى تفعيل دور الجامعة العربية. انضم الى الحزب كثير من العمال والفلاحين من ابناء الطبقة الوسطى ومن أصحاب المهن والاعمال، وعمل الحزب على عدم إشراك رؤساء القبائل كما فعلت بعض الاحزاب آنذاك بسبب قناعته بعدم امتلاك تلك الشريحة المؤهلات السياسية.
القومية العربية والدين
منذ نشوئها كانت القومية العربية في البداية حركة علمانية، إذ رفض القوميون العرب بشكل عام الدين كعنصر أساسي في الهوية السياسية، وعززوا وحدة العرب بغض النظر عن الهوية الطائفية. ومع ذلك فإن حقيقة أن معظم العرب كانوا مسلمين قد استخدمها البعض لبنة مهمة في تكوين هوية وطنية عربية جديدة. ومن الأمثلة على ذلك ميشيل عفلق، أسس مع صلاح الدين البيطار( ١٩١٢- ١٩٨٠) وزكي الأرسوزي (-١٩٦٨) حزب البعث في سوريا في الأربعينيات. أما عفلق، رغم كونه مسيحياً، فقد اعتبر الإسلام شهادة على «العبقرية العربية»، وقال ذات مرة: (محمد كان مثالاً لكل العرب. فليكن كل العرب اليوم محمديين). منذ أن وصل العرب إلى أعظم أمجادهم من خلال انتشار الإسلام، كان يُنظر إلى الإسلام على أنه رسالة عالمية وتعبير عن العبقرية العلمانية من جانب الشعوب العربية. لقد أعطى الإسلام للعرب «ماضيًا مجيدًا» يختلف كثيرًا عن «الحاضر المخزي». في الواقع، كانت متاعب الوجود العربي بسبب انحراف العرب عن الإسلام «رمزهم الأبدي الكامل». احتاج العرب إلى «البعث «بالعربية). بعد الانقلابات العسكرية البعثية في العراق وسوريا في الستينيات، «ساهم البعثيون بقدر ضئيل جدًا في تطوير القومية العربية الشاملة، التي كانت سبب وجودها الأصلي.
القومية العربية والوحدة
إن مصطلح (الوحدة العربية) الذي ساد في حقبة الستينات وحتى الثمانينيات كان يتبنى الوحدة الاندماجية. وبعد فشل الأحزاب والقادة الذين رفعوا شعار الوحدة الاندماجية، بات القوميون يطرحون مفهوماً جديداً للوحدة العربية يعتبر قريبا من المشروع الأوروبي، أي الدعوة للانصهار في كتلة ذات سياسة خارجية موحدة، وذات ثقل اقتصادي كبير يقوم على التكامل الاقتصادي والعملة الموحدة وحرية انتقال الأفراد والبضائع بين الأقطار المختلفة، بالإضافة لتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك للوصول إلى اتحاد عربي مع المحافظة على خصوصيات اجتماعية أو ثقافية قد توجد في بعض المناطق العربية.
في عام 1963 لاحت فرصة للوحدة بين مصر وسوريا والعراق عندما حدثت خلال شهر واحد حركتان في 8 شباط و 8 آذار 1963 في كل من العراق وسوريا قادهما حزب البعث في كلا الدولتين. وبعد مباحثات مع مصر أعلن ميثاق 17 نيسان للوحدة بين البلدان الثلاثة، ولكن الميثاق لم يطبّق نتيجة لرفض مصر للوحدة الفورية بعد تجربة عبد الناصر في الوحدة عام ١٩٥٨ مع سوريا . وفيما بعد أُُطيح بحكم البعث في العراق على يد الرئيس عبد السلام عارف في ١٨ تشرين الثاني ١٩٦٣ وفي سوريا في شباط ١٩٦٦.
ورغم عودة البعث إلى الحكم في العراق عام 1968 وفي سوريا عام 1970 ، إلا أن البلدين لم يتحدا أبدا ، بل أن العلاقات بين البلدين ازدادت عدائية، لأن كلا جناحي حزب البعث السوري والعراقي اعتبر كل منهما نفسه الممثل الحقيقي لحزب البعث، واعتبر الطرف الآخر بمثابة انشقاق عن المبادئ الأساسية للبعث، وأُقيمت قيادة قومية في كلا البلدين اعتبرت نفسها بمثابة القيادة الشرعية. ومن الواضح أن هذا الصراع الذي اكتسى طابعاً إيديولوجيا لم تكن له علاقة بالإيديولوجية بل كان صراعاً على السلطة فكلاً الفرعين لم يكن يقبل زعامة الآخر للحزب ومن ثم للدولة الموحدة.
سرديات الحبوبي
في أول لقاء لنا مع السياسي العتيد السيد أحمد الحبوبي في مقهى شعبي في شارع أكد في الكاظمية ، في أمسية باردة لإحدى ليالي الشتاء في ٢٤ شباط ٢٠٢٥ . تحدثنا بأريحية وصداقة. وجدت السيد الحبوبي ذا ذاكرة قوية، يتذكر كل الأحداث بتفاصيلها، والمشاهد بحواراتها، يحكي كأنه يكتب سيناريو، فهو يصف كل حركة والتفاتة وطبيعة الكلام ونبرة المتحدث رغم أن عمره يناهز (94) عاماً. استغرق الحوار جلستين ، الأولى في مقهى ، والثانية في منزلي ، حيث تم توثيق الحديث بالفيديو. واستعنت بالمراجع التاريخية لتوثيق الأسماء والتواريخ، ليكون المقال موثقا ، وقد ذكرتها في مصادر البحث.