يستعدّ العراق لاحتضان القمّة العربية الرابعة والثلاثين يوم 17 مايو 2025 الحالي في العاصمة بغداد، وتعلن هذه القمّة المرتقبة بقوّة أنّ العراق دخل مرحلة حاسمة من التعافي، وأنّه أفاق من الغفوة التي فُرضت عليه منذ أزيد من عشرين سنة، ويبرهن العراق مجدّدا أنّه من المستحيل طمس الإرث الإنساني الذي تحمله حضارة بلاد ما بين النهرين، التي فرضت عليه الجغرافيا موقعا ناله منه ونتيجة له قدْرَاً كبيرا من المآسي وعدم الاستقرار.
وعودة بغداد العراق ليست العودة الأولى في تاريخ هذا البلد العظيم، فمنذ سقوط بغداد سنة 1258 على يد المغول وتدميرها بالكامل وإبادة سكّانها وحرق مكتبتها ونهبها، تداعت بغداد ما لا يقلّ عن أربع مرّات، وفي كلّ مرّة تُدمّر ويُباد سكّانها وتحرق معالمها التاريخية ويُنهب تراثها، وفي كلّ مرّة تنبعث بغداد من تحت أنقاضها وتسطع من جديد.
وآخر «سقطة» جاءت مع الغزو الأمريكي للعراق، ولا نكاد نعاين فروقات كبيرة بين ما أحدثه المغول من دمار وتخريب واستهداف لمعالم حضارة العراق العريقة، وما قام به الاحتلال الأمريكي الذي أمعن في تخريب دولة العراق ومؤسّساته واستباح آثاره ونهب متحفه وخيراته، وفرض عليه وعلى شعبه حربا مدمّرة تدفع تكاليفها أجيال من العراقيين إلى الآن.
ونعتقد أنّ استهداف العراق هو نتيجة هوس عميق لدى البعض بضرورة القضاء على دوره الرائد في تطوير حضارة الإنسان وطمس إسهاماته في هذه الحضارة الإنسانية على مدى ما يزيد من العشرة آلاف سنة، فضلا عن دوره في المساهمة الحاسمة في الحضارة العربية، التي بدا أنّها تترنّح كلّما تداعى العراق وتنتعش برجوعه وانتعاشه.
ولعلّ ما مكّن العراق من الصمود والعودة في كلّ مرّة هو ذلك الإرث الإنساني المُتَضَمَّن في جينة الإنسان العراقي، وهو ما مكّنه من أن يكون رائداً في العلم والثقافة والفكر والحضارة والمعمار وبناء الدول، وأن يكون العراق أيضا مهدا للأديان ولحضارة الإنسان.
ولسنا في حاجة للتدليل بأنّ حضارة العراق هي حضارة إنسانية شاملة وعريقة وتتجاوز بالتالي رقعة الإقليم العربي، وهي لذلك مثّلت وتمثّل دوما سندا قويّا لحضارة عربية تسعى دوما لتثبيت وجودها، إلى جانب كونها مستهدفة هي الأخرى، ومع كلّ الأزمات والمآسي يتأكّد أنّ حضارة العراق هي «الجناح» الذي دونه يستحيل على حضارة العرب التحليق والطيران.
وإنّ عودة العراق بعد تغييب قسري كاد يتسبّب في تلف موروث الحضارة العربية، هو في الواقع سندٌ وتقويةٌ للعرب، تماما كما أنّ وجود العرب في بغداد بمناسبة القمّة هو دعم للعراق حتّى يواصل صحوته الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية والحضارية.
إنّ 2025 هو العام الذي يعلن فيه العراق أنّه تعافى تماما، وأنّه عاد من أجل مواصلة القيام بدوره الوطني والقومي والإنساني، وهو يحتاج لمزيد التعافي أن يلقى الدعم والسند الكافييْن من محيطه العربي تحديدا حتّى ينهض اقتصاده بما يحقّق رفاهية ورقيّ مواطنيه ومجتمعه، والتاريخ يعلّمنا أنّه كلّما انتعش العراق فاضت خيراته على الجميع.
وإنّ انعقاد قمّة العرب في بغداد هو إعلان عملي وفعلي أنّ بغداد عادت عاصمة سياسية، بعدما كانت على مدى الأحقاب الأخيرة موطن عدم استقرار ونزاعات شتّى، ولم تسلم حتى من شرّ الإرهاب.
الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كان يقول «إنّ أيّ بلد لا يُدمّر إلّا بتواطؤ أبنائه، وإنّ عملية التشييد والبناء لا تكُون بغير وطنيين مخلصين لبلادهم»، ونحن نقدّر أنّ عودة العراق كانت ضرورية بفضل الموروث الجيني غير القابل للاندثار والطمس، وأنّ عودة العراق أصبحت ممكنة بوجود وطنيين من أمثال رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني.