في أزقة بغداد القديمة، وبين عبق شارع الرشيد ورائحة الزبيب المغلي، يقف رجلٌ تجاوز الثمانين يحمل بين تجاعيد وجهه حكاية مدينة، وتاريخ عائلة، وإرثاً حلواً اسمه (حجي زباله) هو الحاج عبد الغفور، المعروف بين البغداديين بـ»حجي زبالة»، الاسم الذي التصق به منذ المهد، وصار علامة فارقة تسبق اسمه في ذاكرة الناس. في هذا الحوار الذي أجرته جريدة الزوراء معه، يحدثنا الحاج عن سر تسميته، وبدايات مهنته، وذكرياته مع ملوك ورؤساء مرّوا من أمام دكانه، ليشربوا من نبع بغداد الباقي رغم تغيّر الزمن.
- بدايةً، نرحب بك حجي في جريدة الزوراء، أقدم صحيفة عراقية، وأنت من أهل بغداد القدامى الذين يحيون التراث. اسمك المعروف بين الناس «حجي زبالة»، من أين جاءت هذه التسمية؟
الاسم الحقيقي هو عبد الغفور، وسأروي لكم كيف صار اسمي حجي زباله.. أمي رحمها الله، كانت كلما تلد ولداً، يفارق الحياة إما بمرض أو حادث. فقدت سبعة أولاد قبلي، وحين وُلدت أنا، جاء الجيران يهنئونها بالمولود. لكنها خافت من الحسد والعين، فلم تخبرهم أن اسمي عبد الغفور، بل قالت: «هذا زبالة». ومنذ ذلك الحين التصق بي الاسم، وصرت معروفاً بين الناس بـ»حجي زبالة».
- وكم يبلغ عمرك الآن؟
- عمري اثنان وثمانون عاماً، والحمد لله.
- نسأل الله أن يطيل بعمرك ويبارك بصحتك. ننتقل الآن إلى قصة الشربت البغدادي الذي اشتهرت به. متى بدأت هذه الحرفة وكيف جاء تأسيسها؟
- بدأ التأسيس عام 1900، على يد جدي المرحوم عبد الصاحب، من مواليد عام 1870، وكان عمره ثلاثين عاماً حين بدأ صناعة الشربت. تعاون معه أولاد إخوته، وكلهم كانوا رجالاً نشطين. أما أنا المسمى حجي زباله فكانت بدايتي بعد ذلك.
- طيب ولكننا نرى اليوم الكثير من محلات بيع الشربت تحمل نفس اسم حجي زباله ؟ فكم فرع لديكم حالياً في بغداد؟
- في الحقيقة، ليس لدينا فروع. ما يُقال عن وجود فروع هو غير صحيح، كلها أسماء مزيفة. المحل الأصلي الوحيد يقع في شارع الرشيد، تحديداً في منطقة الحيدرخانة قرب شارع المتنبي، مقابل ثانوية الإخاء التي كانت تُعرف سابقاً باسم «الرسالة.
وهل هذا موقعكم الاول ؟
- كان محلنا أولاً في الكرخ سنة 1900، ثم انتقل إلى سوق السراي عام 1908، وبقينا هناك أربع سنوات. وفي سنة 1912 استقرّ الحال في موقعنا الحالي بشارع الرشيد، وما زلنا فيه حتى يومنا هذا.
- ومن الذي يشرف على العمل اليوم؟
- أنا من يشرف على المحل، لكن أولادي هم من يقومون بخدمة الزبائن، ونحن الجيل الثالث في هذه المهنة.
- هل لكم أن تحدثونا عن طريقة صناعة الشربت حالياً؟
- حالياً نستخدم أجهزة حديثة. بعد غسل الزبيب جيداً، نضع عليه كمية مناسبة من الماء، حتى يُنتج طعماً مركزاً حلو المذاق. لا نستخدم السكر أو الثلج، بل نعتمد على التبريد الصناعي. كذلك لا نقيس المكونات بأيدينا، بل نستخدم مرشحات وأجهزة دقيقة، فيخرج الشربت جاهزاً.
- وكم يبلغ سعر كأس الشربت؟
- سعر الكأس ألف دينار، أما القنينة (البطل) فتُباع بثلاثة آلاف دينار، أي تعادل أربعة كؤوس.
هل للشربت فوائد صحية؟
- نعم، الزبيب له فوائد عديدة. فهو يوسّع الأوعية الدموية، ويقي من الجلطات القلبية والدماغية. كما أنه مفيد لعلاج فقر الدم، ومشاكل الأمعاء والقرحة، وله دور في تقوية الأسنان. ويُروى أن الإمام الصادق عليه السلام، حين سُئل عن علاج الضغط، قال: «عجبت لبلد فيه الزبيب وأهله يشكون من الضغط».
- ما هي أقدم ذكرياتك مع الشخصيات السياسية في بغداد؟ ومن هو أول رئيس جمهورية التقيته؟
- عاصرت الملك فيصل الثاني، وكان نوري السعيد باشا من الزبائن الدائمين، رحمه الله. أما عبد الكريم قاسم، فقد زارني عدة مرات، وكذلك عبد السلام عارف، وعبد الرحمن عارف، وأحمد حسن البكر. وفي زمن عبد الكريم قاسم، استقبلنا في المحل الملك محمد الخامس ملك المغرب، وأحمد بن بلة من الجزائر.
- كلمة أخيرة توجهها للعراقيين ؟
أقول لأهلنا ، ليكن التسامح بينهم عنواناً، فمحلنا كان وما زال مكاناً يجمع العراقيين بكل أطيافهم. الجميع يشربون من قدح الشربت ذاته، دون تمييز بين مذهب أو طائفة أو طبقة. هذه هي روح بغداد التي نحبها.
- شكراً جزيلاً لك حجي زبالة، ونتمنى لك دوام الصحة والعافية.