هذه الاعترافات والذكريات حصيلة عدة جلسات مع المحامي والسياسي العتيد السيد أحمد هادي الحبوبي ، ربما هو القومي العربي والعراقي الوحيد الذي شهد عهوداً وفصولاً من تاريخ العراق السياسي المعاصر . شارك في وزارات وحكومات ، وجبهات سياسية في العهدين الملكي والجمهوري. طورد من قبل السلطات الحاكمة ، واختار المنفى منذ عام ١٩٦٠ ، وعاد بعد انقلاب ١٩٦٣ ، وتولى مناصب وزارية في عهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف. قضى ثلاثين عاماً لاجئاً سياسياً في بلد يحبه كثيراً ويعشق زعيمه جمال عبد الناصر ، وعاد إلى العراق بعد سقوط صدام ، ليلتقي بأهله وأحبته وأصدقائه ، وليعانق المحلات التي فارقها في النجف وبغداد ، وليبداً بسرد ذكرياته عن تلك الحقبة التاريخية.
السيرة الذاتية
والده السيد عبد الهادي الحبوبي بن السيد محمود الحبوبي، وهو أصغر أخويه السيد محمد سعيد الشاعر والفقيه والمجاهد المعروف ، والسيد حسين والد الشاعر محمود الحبوبي. وأطلق على الاسرة لقبة (الحبوبي) لأن أحد الأجداد وهو السيد مصطفى ابن جمال الدين كان يستخدم كلمة (حبوبي) في حديثه مع الآخرين، فكان الناس يسمونه السيد أبو حبوبي.
محمد سعيد الحبوبي
السيد محمد سعيد الحبوبي (1850-1915) الفقيه الأصولي ، وهو الأخ الأكبر للسيد عبد الهادي والد السيد أحمد الحبوبي. وهو شاعر مشهور بشعره في الغزل والنسيب والمدح. ولد في النجف ونشأ ودرس بها. درس الأدب على خاله عباس الأعسم (١٨٣٢- ١٩٠٥)، ثم رحل إلى حائل في نجد سنة 1864 مع والده للعمل ، ثم عاد إلى النجف سنة 1867. واصل دراسته في مدارسها الفقهية، فكوّن تكوينًا اجتهاديًا مستقلًا. زامل جمال الدين الأفغاني أربع سنوات أثناء الدّراسة. ثم تولى التدريس فصار إمامًا في الصحن الحيدري بالعتبة العلوية. كانت له مجالس أدبية ومحاضرات. كان من تلامذته السيد محسن الحكيم (١٨٨٩- ١٩٧٠) والشيخ محمد حسن سميسم (١٨٦١- ١٩٢٣) ، وابنه السيد علي الحبوبي.
اشتهر بمواقفه ضد الاحتلال البريطاني في العراق، وقاد جيشًا من أبناء الفرات الأوسط للمقاومة ضد حملة بلاد الرافدين سنة 1914. توفي في الناصرية عام 1915 متأثراً بجروحه في معركة الشعيبة ودفن في العتبة العلوية ، في الحجرة رقم (١٠). له ديوان شعر طبع مرّات.
الأسرة والنشأة
ولد السيد أحمد عبد الهادي الحبوبي في النجف الأشرف عام 1931 ، لأسرة علمية دينية وثرية معروفة تنتسب للإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع). ولد في محلة (الحويش) ، وله ثمانية إخوة وأربع أخوات ، وهو أصغر الذكور.
كان والده يعمل في التجارة مع أخويه ، وكانت تجارتهم بين النجف ونجد (منطقة حائل السعودية). وله دكان في سوق حائل ، حيث يبيع الأقمشة ، ويقيم هناك وقتاً من السنة ، وبقية السنة يقضيها في النجف. ولما استولى عبد العزيز آل سعود الذي قضى على حكم آل رشيد ، توقف عن الذهاب إلى حائل. ترك التجارة ، وأخذ يعمل في الزراعة مع أخويه ، وكانت لهم أراضٍ زراعية وبساتين في ضواحي الكوفة والعباسية والمسيب والمشخاب. كان الوالد يقيم مجلس عزاء كل يوم اثنين من الأسبوع ، وعادة ما يقام ليلاً ، ويحضره جمع كبير من الناس ، بينهم العالم والشاعر والأديب وتاجر . وكان السيد جواد شبر يقوم بقراءة المقدمة ريثما يحضر الخطيب. في عام ١٩٤٤ توفي والده وترك السيد أحمد صبياً عمره ثلاث عشرة سنة ، وكان في حياة أبيه قد تعلم القراءة والكتابة لدى الكتاتيب ، ثم دخل المدرسة الابتدائية ، فلم يدخل الحوزة العلمية مثل أخيه السيد عبد الحميد . أما بقية إخوته فانصرفوا للعمل في الزراعة تحت إشراف والدهم.
في الصف الثاني الابتدائي، كان مشرف الصف حسين محمد الشبيبي ، وهو شيوعي معروف ، أعدم عام ١٩٤٩ مع (فهد) سكرتير الحزب الشيوعي العراقي. وقد اختاره مراقباً لآنه أكبر طلاب الصف سناً ، وأكثرهم نشاطاً وحركة في فعاليات الصف. أكمل السيد أحمد الحبوبي دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في النجف، ثم انتقل إلى بغداد، ودخل كلية الحقوق وتخرج منها محاميا عام ١٩٥٥ .
نشاطه السياسي
بدأ اهتمامه بالعمل السياسي من خلال المشاركة في التظاهرات العامة في النجف الأشرف. فقد شارك في مظاهرات عام ١٩٣٦ لنصرة فلسطين. وشارك في المظاهرات الحزينة والباكية التي خرجت بعد مصرع الملك غازي في حادث سيارة عام ١٩٣٩. وكان يتابع أحداث حركة مايس التي قادها رشيد عالي الكيلاني (١٨٩٢- ١٩٦٥) والعقداء الأربعة عام ١٩٤١، وفرار الملك فيصل الثاني إلى أربيل ، والوصي عبدالإله إلى بارجة إنكليزية في شط العرب بالبصرة.
بعد الحرب العالمية الثانية أجاز وزير الداخلية سعد صالح (١٨٩٤- ١٩٤٩) تأسيس الأحزاب السياسية ، فتأسس الحزب الوطني الديمقراطي ، حزب الاستقلال ، حزب الأحرار ، حزب الشعب و حزب الاتحاد الوطني ، ولم يجز حزب التحرر الوطني بتهمة أنه حزب شيوعي.
كان أحمد الحبوبي في الصف الأول المتوسط (عمره ١٤ عاماً) ويراقب ويتابع نشاطات ومهرجانات ونقاشات وندوات الأحزاب الجديدة. وقد اهتم بأفكار حزب الاستقلال ، وانتمى إليه بتشجيع من زميل له في المدرسة.
شارك الحبوبي في وثبة كانون ١٩٤٨ عندما شارك في التظاهرات المعارضة للمعاهدة البريطانية العراقية . فقد جاء إلى بغداد مع بقية الطلاب المتظاهرين ، وهتفوا بسقوط المعاهدة. وقد تعرضوا لإطلاق رصاص من الشرطة قرب منطقة السراي ، فسقط بعضهم شهداء وجرحى، واحتمى الآخرون بعربات النقل التي تجرها الخيل. وفيها استشهد جعفر شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري. وعاد أحمد مع الناجين الى النجف بصعوبة. وشارك في تظاهرات في النجف ضد منع التقسيم وإقامة دولة إسرائيل.
في عام ١٩٥١ فاز الأول في الإعدادية على النجف ، وقدّم أوراقه إلى كلية الحقوق ، فقبل فيها رغم المنافسة الشديدة. وهناك تعرّف على زملاء من حزب الاستقلال ، وكان يحضر الندوات التثقيفية ، والمحاضرات والنقاشات. كما تعّرف على قيادة الحزب والعناصر النشيطة من بينهم توفيق المؤمن الذي كان ما يزال طالبا في الثانوية في الكرخ.
في بغداد تعّرف أحمد الحبوبي على تحسين معلة (١٩٣١- ٢٠٠٥) ، الطالب في كلية الطب ، ويذهبان معاً إلى مقهى (الدفاع) الواقعة في شارع الرشيد مقابل وزارة الدفاع. وهناك تعرف على الطلاب البعثيين مثل فؤاد الركابي (١٩٣١- ١٩٧١) وكريم شنتاف العاني (١٩٣٤- ) وعلي صالح السعدي (١٩٢٨- ١٩٧٧) وزكي الخشالي وفيصل حبيب الخيزران (١٨٩٥- ١٩٨٤) وعبد الوهاب الغريري (١٩٣٤- ١٩٥٩).
في تشرين عام ١٩٥٢ أعلن طلاب كلية الصيدلة الاعتصام ضد قرار العميد بتعديل نظام الكلية ، الذي اعتبروه ضاراً بمصلحتهم. وتضامن طلاب كلية الحقوق معهم ، فأعلنوا الاضراب أيضاً ، وهكذا لحقت بها كليات الهندسة والآداب والتجارة. وساروا في تظاهرة ترد شعارات تطالب بسقوط الحكومة والاستعمار البريطاني وحتى سقوط الملكية. حاولت عدد من الشرطة التصدي للمتظاهرين ، فقام المتظاهرون بضربهم ، لكن قبل وصول التظاهرة إلى (مركز شرطة الشيخ طه) إذا برصاص الشرطة ينهمر عليهم ، وأصاب بعضهم ، فهرب الآخرون . ولم تتوقف التظاهرات ، وتصدت لها سيارات الجيش تحمل جنوداً . واستقالت الحكومة ، لكن المظاهرات لم تنقطع ، فأعلنت الاحكام العرفية ، عُطّلت الأحزاب والصحف الحزبية ، وتم اعتقال شخصيات معارضة وكذلك طلبة.
في معسكر سكرين
غادر الحبوبي بغداد ، وذهب إلى النجف واختبأ في منزل أهله. وعندما هدأت الأمور عاد إلى كليته في بغداد. في صيف ١٩٥٣ ساقتهم وزارة الدفاع إلى معسكر (سكرين) قرب مدينة (زاويته) في كردستان. وأريد بهذا المعسكر أن يعيش الطلاب حياة عسكرية خشنة وصعبة ، يتعلمون فيها الانضباط والاستيقاظ المبكر ، وتعلم الدروس النظرية والعملية. وكان من بين المدرسين الضباط عبد الكريم فرحان (١٩٢٢-٢٠١٥) وصبحي عبد الحميد (١٩٢٤-٢٠١٠) وعرفان عبد القادر وجدي ورشيد مصلح التكريتي (١٩١٧- ١٩٧٠) ومحمد مرهون ، وقد أصبحوا وزراء في حكومة طاهر يحيى بعد أكثر من عقد ، ومعهم أحمد الحبوبي وزير العمل والشؤون الاجتماعية.
وهناك زارهم وزير الدفاع نوري السعيد (١٨٨٨- ١٩٥٨) ، وكان يتبسط مع الطلاب في الحديث والنكت ، ويستجيب لمطالبهم التي لا تنتهي ، وبعضها للمناكفة.
مع الملك فيصل الثاني
وكان الملك الشاب فيصل الثاني (١٩٣٥- ١٩٥٨) وخاله الأمير عبد الإله (١٩١٣- ١٩٥٨) يقضيان الصيف في مصيف سرسنك الذي يبعد عن المعسكر بضعة كيلومترات. وقد رتبت إدارة المعسكر بالاتفاق مع الأمير لقاءات دورية للطلبة مع الملك الشاب ، حتى يحتك بهم ، ويطلّع على أفكارهم. والتقى أحمد الحبوبي ، وجلسوا معه ، يتبادلون الحديث. كان الملك قليل الكلام ، لا تفارق محياه الابتسامة ، يغلب عليه الحياء ، قليل الكلام ، خافت الصوت ، يجيب على الأسئلة بجمل قصيرة ، وكأنه يستحي أن يطيل في الكلام. وما دعوه للسباحة معهم ، اعتذر بكونه مريض ، يعاني من الربو ، وأن الماء البارد يضر بصحته. وعندما طلب أحد الطلبة منه اللعب معه كرة المضرب ، لبّى الدعوة فرحاً ، وكان يجيد اللعب.
نشاطات في المكتبة القومية
في صيف ١٩٥٤ افتتح الشيخ أحمد الجزائري مكتبة في النجف ، يلتقي فيها الشباب في العطلة الصيفية. وكانوا من شباب حزب الاستقلال والشباب القومي عموماً . وكان يُلقى فيها الدروس والمحاضرات في القومية ، وتبادل الكتب والمجلات التي تبحث في القومية والعروبة ومشاكل الوطن العربي . وتم تسميتها بـ (مكتبة الشباب القومي) وتقم في شارع عمالي في النجف ، حيث تكثر فيه محلات الحدادة والنجارة. وكانت المحاضرات
تُلقى يومياً بعد الظهر ، يقوم بإلقائها أساتذة من النجف أو بغداد. وقد حاضر فيها الدكتور عبد الهادي محبوبة (أستاذ في دار المعلمين العالية ( (كلية التربية لاحقاً) الذي حضر خصيصاً من بغداد لهذا الغرض.
قصيدة تحرمه من البعثة
تخرج أحمد الحبوبي من كلية الحقوق عام ١٩٥٥ ، وكان ترتيبه الثالث ، ومؤهل لإرساله إلى فرنسا في بعثة دراسية. وفي حفل تخرج طلبة الحقوق ، طلب الدكتور مصطفى كامل ياسين من الحبوبي أن يلقي قصيدة شعرية.
حضر الحفل الملك فيصل وولي العهد عبد الإله ونوري السعيد رئيس الوزراء ، وحشد من الوزراء والأساتذة يتزعمهم العميد المصري الدكتور أكرم عبد القادر ياملكي. جاء في قصيدة الحبوبي:
إن شئت للمجد الرفيع وصولا***فاسلك إليه بالعلوم سبيلا
بالعلم يبني المرء شامخ مجده***أحرى به من أن يطيب قبيلا
بالعلم تزدهر الحضارات التي***لولاه لم تك في القرون الأولى
ثم جاء هذا البيت ، الذي ألقاه بحماس ، وبإشارة من يده إلى حيث يجلس الملك والأمير ورئيس الوزراء ويقول:
في العدل منجى للنفوس فإن يدم***دام الهنا في العالمين طويلاً
فصفق الطلاب لهذا البيت طويلا ، ثم طلبوا إعادته مرة أخرى ، فأعاد قراءته بحماس أكبر ، وبإشارة بكلتا يديه إلى حيث يجلس الملك . لم تنشر القصيدة في الصحف رغم أن الحبوبي أعطاها لأحد مراسلي الصحف.
ذهب الحبوبي لاستكمال أوراق البعثة في وزارة المعارف ، فطلبوا منه (شهادة حسن السيرة والسلوك) التي تصدرها (إدارة التحقيقات الجنائية) ، التي امتنعت عن تزويده بها ، وعبثاً حاول . بعدها أن القصيدة المذكورة موجودة في ملفه ، لكن بوساطة من ابن عمه السيد محمود الحبوبي ، تمكن من الحصول عليها ، لكن الوزارة لم ترسله ، بل أرسلت طالباً ترتيبه السابع إلى فرنسا.
العمل في المحاماة
بعد فشل الذهاب في البعثة ، انتمى الحبوبي لنقابة المحامين.. فاتحه زميله مصطفى شنشل بالعمل المحاماة في مكتب أخيه محمد صديق شنشل. قبل بالفكرة ، وباشر العمل بعنوان (محامي تحت التمرين). وكان مثابراً في العمل ، يسهر الليل في قراءة أضابير الدعاوى وتحضير اللوائح. وقد اعتمد عليه صاحب المكتب ، ووثق بكفاءته وثقته. وفي المكتب تعرف على الكثيرين من السياسيين والشخصيات.
العودة إلى النجف
بعد حرمانه من البعثة ، حزن الحبوبي كثيراً ، وقرر الانتقال إلى النجف وممارسة المحاماة والسياسة هناك. افتتح مكتبه الذي يطل على ميدان النجف الكبير ، حيث انصرف لاستلام الدعاوى ، ومراجعة المحاكم والدوائر الرسمية. انشغل بالسياسة ، وكانت تشغل الجزء الأكبر من وقته. فكان يتابع (حلف بغداد) ، واستقالات وتشكيل الحكومات ، والانشقاقات في الأحزاب السياسية ، وقرارات نوري السعيد منها حل الأحزاب السياسية ، وإلغاء امتيازات الصحف ، وضوابط عقد الاجتماعات والتظاهرات والنقابات .
وكان أخطرها هو اسقاط الجنسية العراقية عمن يدان بالشيوعية. كما ساهم في تظاهرات النجف ضد العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، التي أدت إلى اعتقال العشرات من الناشطين السياسيين، واطلقت الشرطة فيها الرصاص ، لكن التظاهرات استمرت عشرة أيام.
وقد كان للمرجعيات الشيعية دور في دعم التظاهرات من خلال ارسال برقيات الاحتجاج علي العنف المستخدم ضد الطلاب المتظاهرين وقتل الأبرياء، وإغلاق المدارس ، والأسواق والمحال التجارية. ومن بينهم المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم ، وبقية المراجع والعلماء أمثال الشيخ عبد الكريم الجزائري والسيد حسين الحمامي والشيخ محمد كاظم الشيخ راضي والسيد علي بحر العلوم.
حادثة النجف في وفاة النبي (ص)
اعتاد طلاب ثانوية النجف على تنظيم موكب عزاء بمناسبة وفاة الرسول (ص) في ٢٨ صفر من كل عام. وكانوا يسيرون في صفوف منسقة يحرسهم رقباء منهم ، إلى الصحن الحيدري ، وصادفت في ١٢ أيلول ١٩٥٨ . وتم الاتصال بممثل الحزب الشيوعي وإبلاغه عن الموكب ، ودعوته ومن يشاء ، للمشاركة في هذه المسيرة السلمية ، إظهاراً للتضامن فاعتذر عن المشاركة.
ذهب أحمد الحبوبي إلى قائمقام النجف السيد تقي القزويني للحصول على إجازة للموكب ، فطلب تقديم تعهد بعدم الاخلال بالأمن ففعل.
تصادف خروج الموكب في الصباح الباكر مع اذاعة خبر اعفاء عبد السلام عارف من مناصبه العسكرية ، وكان نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ونائباً لرئيس الوزراء ، واحتفاظه بمنصب وزير للداخلية. وخرج الشيوعيون بتظاهرة ترفع (اتحاد فيدرالي – صداقة سوفيتية) ويرفعون الأعلام الحمراء تأييداً لقرار الزعيم بإعفاء عارف. ويهتفون (وصانا فهد من مات دولتنا شيوعية) وفهد (يوسف سلمان يوسف ١٩٠١-١٩٤٩) هو سكرتير الحزب الشيوعي أعدم عام ١٩٤٩.
كان موكب وفاة الرسول (ص) يرفع لافتة التعزية ويحمل صورة الامام علي (ع) وصور جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. لكن ما ان وصل الموكب إلى وسط الميدان الكبير حتى انهالت عليه القانوني الفارغة من المقاهي المحيطة بالميدان. لم يأبه الطلاب وساروا حتى وصلوا السوق الكبير ثم الصحن الشريف، وإذا بالكراسي تنهال على رؤوس المشاركين في الموكب ، وكان الشيوعيون يريدون إفشال الموكب وإيقافه. بعد ذلك لجأوا إلى إطلاق الرصاص ، فهرعت الجماهير ، واختلط الحابل بالنابل. هرب الحبوبي إلى مكتبه ، وإذا بالرصاص ينهمر على مكتبه ، مما أجبره وبقية الموجودين على افتراش أرض المكتب توقياً للرصاص. جاءت تظاهرة صوب المكتب ، يحمل أفرادها أسلحة وحبالاً ، وهي تهتف ضد الخونة و (سقوط القوميين المزيفين). حاولوا الصعود إلى المكتب والسعي للفتك بأحمد الحبوبي. انقطع الرصاص فجأة ، فإذا بالمسلحين ينسحبون من العمارة المقابلة والتي منها كانوا يطلقون النار صوب مكتب الحبوبي. واحتشدت تظاهرة كبيرة صوب المكتب ، يحملون مختلف أنواع الأسلحة ، وهم يهتفون ضد الخونة والمجرمين الذين خرّبوا موكب الرسول (ص). فجأة انطلق الرصاص من أسفل بناية المكتب مصوّب نحو المظاهرة ، ويجبرها على التوقف. كان هناك ضابط شاب أمسك مسدسه بكلتا يديه ، ويطلق الرصاص عندما تقترب المظاهرة من المكتب، فتتوقف وتتراجع . فجأة ارتطم صدره بحجر كبير فصرخ ثم سقط على الأرض دون حراك. ثم حمله بعض الناس من المكان. اثر ذلك بادر بعض المتظاهرين بالصعود إلى المكتب لتأديب الخونة ، فإذا بالرصاص يلعلع مرة أخرى تجاه المتظاهرين ، لمنعهم من الصعود. وكان مفوض شرطة قد أخذ مكان الضابط الشاب ، ويصرخ بالمتظاهرين: (والله لا يصعد أحد للسيد الحبوبي إلا على جثتي). بعد ثلاث ساعات وصلت سيارة جيب إلى باب المكتب ، تحمل معاون شرطة معه شرطيان مسلحان.. صعد إلى المكتب وقال أنه سينقل الجميع إلى مكان آمن ، وطلب أن ينقلهم على شكل وجبات تضم كل وجبة خمسة أشخاص. تم نقل الجميع ، وبقي أحمد الحبوبي ومعه جعفر عبد الحسين وعبد الأمير الوائلي ومحمد حسين المقرم ، وعندما نزلوا رشقهم المتظاهرون بالحجارة. وصلوا بعد منتصف الليل إلى دائرة كمارك النجف ، ودخلوا غرفة كبيرة خالية من الأثاث والكراسي ، فافترشوا الأرض ، وناموا بسبب التعب والجوع والعطش .
في الصباح نصحهم أحمد الحبوبي بالهروب من بناية الكمارك ، فتسوروا السياج وهربوا ، وتركوا الحبوبي وجعفر عبد الحسين وآخرين رفضوا أن يتركوه وحده. وقد سارت تظاهرة تجوب المدينة ، تطالب بإعدامهم لأنهم خونة خربوا مواكب العزاء .
في ١٣ أيلول ١٩٥٨ حضر حاكم تحقيق النجف راجي الهداوي إلى دائرة الكمرك ، وجمع المعتقلين وعددهم (٤٥) شخصاً ، وقرأ عليهم لائحة التهام ، وأنهم متهمون بالمادة (٨٠) من قانون العقوبات البغدادي ، وعقوبتها الإعدام.. وجاء الاتهام بناء على شكاوى قدمها أربعون شاكياً!! لقد بانت المؤامرة. وما أن خرج الحاكم حتى طلب الحبوبي من الأخوة الباقين سرعة التسلل من الكمرك ، والاختفاء. وطلب الحبوبي من جاره الحاج مهدي الحار ، الذي جاء ليطمئن عليه ، أن يحضر له سيارة تقله إلى بغداد. فركبها متوجهاً إلى دار الشيخ أحمد الجزائري الذي كان في بغداد ، فتوجها معاً إلى دار محمد صديق شنشل ، فوجد أخبار النجف مقلوبة تماماً ، وأنها تقول بأن قوى أجنبية لتخريب الثورة ، قام بها بعض المخربين في النجف ، وأن للسعودية وأمريكا لها أيد في حوادث النجف.. اتضح فيما بعد أن وزير الداخلية يردد مقولة الشيوعيين.