في المسلسلات البدوية تتردد مفردة “ الهرج “ بمعنى الكلام او الحديث وفي البغدادية العامية “ الهرج “ هو الصخب والحديث بصوت عالٍ اقرب الى الصراخ الذي لا يمكن ان تقف فيه على مخارج الحروف حتى يضيع المعنى، وفي هذا السياق جاء سوق الهرج من اشهر الأسواق البغدادية التراثية تعبيرا عن ازدحام الناس وتداخل أصوات الباعة المرتفعة مع أصوات المشترين وهم يساومون ..
ومن هذه المفردة جاء وصف المهرج الذي يقوم بالحركات غير المتناسقة ويسوق الجمل غير المترابطة ليصل الى النتيجة النهائية وهي اضحاك الناس عليه وليس على ما يقول او على ما يفعل لانه ببساطة هو مادة العرض بهيئته وليس النص المحكي او المرئي ..
هذه المقدمة هي التوصيف الأمثل – كما نرى – عن استعداد منتخبنا الوطني بكرة القدم للتصفيات المونديالية وهو استعداد مر بمراحل وانتهى الى فراغ تدريبي في اشد الساعات حرجا حتى بات اتحاد الكرة تحت ضغط رهيب لا شك انه يؤدي الى فقدان التوازن والاصابة بعمى الألوان .
قلنا مرارا وكتبنا تكرارا ان العلة في مشهدنا الكروي هو غياب الفلسفة التي تحدد البقعة التي يقف عليها المسؤولون عن اللعبة والنقطة الابعد في الافق التي يتطلعون اليها، وهذه نفس علة الرياضة العراقية عموما التي شرعت في معالجتها بخطوات بسيطة نأمل ان تكون مستقبلا اكثر جرأة وثورية في التشخيص وفي وصف الدواء وفي التقيد بجرعات واوقات تناول الدواء، أي خطوات علمية ميدانية منضبطة .
أما تعيين ارنولد الأسترالي بعد تعقيدات خلع كاساس الاسباني وقبل كل هذا تهميش المدرب الوطني ولا نقول المحلي، فكلها اعراض للعلة وليست هي العلة، فالعلة او المرض الحقيقي في رياضتنا منذ تأسيس اللجنة الأولمبية العراقية عام 1948 فهو غياب التخطيط، وإذا حضر التخطيط فغياب التنفيذ الصحيح لما تم التخطيط له، ودليل ذلك ان العراق منذ ذلك التاريخ بل قبله كان فيه عباقرة في التخطيط الرياضي المنقوع بعصير الاخلاص والنزاهة ولكن لا نتائج لان الدولة منذ ذلك الحين وحتى الساعة تعيش من غير فلسفة رياضية، وهذه قضية تتعلق بما هو اعلى من الحيثيات الرياضية المتداولة نظريا او عمليا محليا او دوليا على امتداد هذا الزمن الضائع .
ما زال الحل الأمثل يتلخص في تحديد فلسفة الدولة تجاه الرياضة والفلسفة الرياضية في عموم سياق توجه وعمل الدولة، وهذا ما حدده كبار الرياضة العراقية تاريخيا ولم تنقطع الاكاديمية الأولمبية العراقية عن تقديمه بلا ملل ولا كلل كل حين، وستبقى كذلك -بعونه تعالى- حتى يرتقي المنصة فلاسفة الرياضة وعلماء التخطيط فيها بعد ان يغادرها المهرجون، ولنا امل في ان يتحقق هذا الحلم قريبا بخطوات اولمبية مؤسساتية مدروسة ..
أما “ سالفة “ تأهلنا الى نهائيات مونديال 2026 او عدمه، فهو تهريج سيعقبه تهريج في سوق هرج كروي بضاعته تضر ولا تنفع على مستوى الوطن المغلوب على أمره.