مذكرات الفنانة الراحلة نادية لطفي (1937- 2020)، والتي اختارت الكاتب الصحافي أيمن الحكيم لكتابتها . وعلى امتداد السنوات الطويلة تواصلت بينهما الحوارات وتراكمت وتحولت العلاقة إلى صداقة إنسانية، فكانت تعتبره واحداً من أفراد أسرتها، وهو الصحافي الوحيد الذي سمحت له بمرافقتها في غرفة العناية المركزة عندما دخلتها في أزمتها الصحية الأولى قبل 5 سنوات.
وبحكم تلك العلاقة، تجمعت لدى الحكيم عشرات الساعات من التسجيلات التي تحدثت فيها الفنانة الراحلة عن تاريخها الفني والسياسي والإنساني، وهو ما يعد وثيقة في غاية الأهمية وشهادة على عصر كان زاخراً بالأحداث والنجوم.
المذكرات مدعمة بتسجيلات صوتية وصور من أرشيف الفنانة الخاص، بعضها يُنشر للمرة الأولى. ويكتب الحكيم تفاصيل رحلة نادية لطفي كما روتها على لسانها. وفي ما يلي تتحدث حول ظروف زواجها المبكر، وتروي تفاصيل لقاءها الأول بالمنتج رمسيس نجيب، وتحكي قصة مقاضاة الكاتب إحسان عبد القدوس لها.
صدمة قاسية
فصلي من المدرسة الألمانية في عام 1953 كان صدمة قاسية وغير متوقعة أربكت حياتي بشدة، لكن صدمتي الأكبر كانت من توابعها، إذ أصبحت تحت حصار عائلي، كل حركة بحساب، وكل خروج بإذن، وانقطعت علاقاتي بعالمي القديم، فقط بقيت على صلة بأعز صديقتين لي من زميلات المدرسة: عنايات الزيات ووفاء الزهيري بحكم وجود روابط أسرية بين عائلاتنا، كان مسموحاً لي بتبادل الزيارات معهما. ولكن القيود راحت تزداد، وبدأت أشعر بالاختناق، خصوصاً بعد التحالف بين عائلة أبي وعائلة أمي على تنظيم حياتي وتأهيلي للزواج.
وكانت جدتي أسعد الناس بهذا الوضع على الرغم من محبتها الغامرة لي، فقد كانت على قناعة بأني تأخرت في الزواج، هي نفسها تزوجت وعمرها 13 سنة. ومنذ أن بلغت أنا سن الخامسة وهي تحلم بهذا اليوم الذي تراني فيه عروسة، وصار الأمر بالنسبة إليها بمثابة محور حياتها ومهمتها المقدسة.
زواج مبكر
كان زواج البنات في سن مبكرة مسألة عادية وطبيعية طبقاً لتقاليد المجتمع وقتها، ولذلك لم تفاجأ أسرتي عندما جاءت أسرة البشاري لتخطبني لابنها، واللواء عبد الفتاح البشاري كان عسكريا مرموقاً، ولديه إخلاص للحياة العسكرية وهو ما تجلى في إلحاق أولاده بالكليات العسكرية المختلفة، خاصة الطيران والبحرية. وبحسب معلوماتي فإنه كان قائداً للقوات المصرية في السودان وكان من أقرب أصدقاء اللواء محمد نجيب، والأهم أن عائلة البشاري كانوا جيراناً لنا في مصر الجديدة، وجاءوا ليطلبوا يدي لابنهم عادل الذي تخرج في الكلية البحرية، ووافقت أسرتي وتمت الخطوبة، أي أنه كان «زواج صالونات» كما يسمونه الآن.وأذكر أن حفل زواجي في عام 1954 حضره اللواء محمد نجيب، أول رئيس جمهورية بعد ثورة يوليو 1952، قبل إقالته وتحديد إقامته. وهكذا أصبحت حرم الضابط البحري عادل البشاري وانتقلت معه إلي الإسكندرية حيث مقر عمله، واستأجرنا شقة جميلة في حي «جليم» أحد أعرق أحياء الإسكندرية، لتبدأ مرحلة جديدة من حياتي.
عنايات الزيات
لم يطل شهر العسل كثيراً، فوقتها (بعد ثورة يوليو)، بدأت مصر بناء قوة بحرية على الحدود الشرقية، ولذلك كان عادل يختفي لأيام طويلة، وأحيانا لأسابيع في غواصته في مهام عسكرية وتدريبية ومناورات وتجهيزات وأمور لم يكن يخبرني عنها شيئاً بحكم أنها أسرار حربية.
وكنت مقدرة لهذه الظروف بالطبع، ولكن المشكلة كانت في وقت الفراغ الطويل الذي أعيشه وهو بعيد، ولم يخفف عني هذا الفراغ سوى نصيحة أمي بأن أشغل وقتي بالقراءة، بجانب التفاف عائلة عادل حولي وخاصة «سوسو» شقيقته التي سرعان ما تحولت إلى توأم روحي، وعوضتني نوعاً ما عن افتقادي لصديقة عمري عنايات الزيات، التي تزوجت هي الأخرى في شتاء عام 1956 وانشغلت في حياتها الجديدة، ولم أكن أراها إلا في إجازات الصيف حين تأتي لتقضيها في الإسكندرية، أو حين أعود أنا لزيارة أسرتي في القاهرة، وكنت أتلهف على لقائها.
وظلت هي الصديقة الأحب والأقرب إلى قلبي، وكانت معي خطوة بخطوة في ترتيبات زواجي، وأذكر اليوم الطويل الذي رافقتني فيه لنشتري حذاء زفافي الدانتيل (موضة تلك الأيام)، وتحملتني ساعات طويلة من التسوق في المحلات حتى اقتنعت بحذاء كان ثمنه 8 جنيهات كاملة!
شغلت نفسي بهواياتي المحببة: القراءة والرسم ومتابعة حركة الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والرياضة والموسيقى، إلى أن منّ الله عليّ بأجمل عطاياه: ابني أحمد، فأصبح دنيتي الصغيرة، وأعترف أنني تلقيت دعماً في تربيته والعناية به من صاحبات الخبرة العريضة: أمي وعمتي والمربية التي ربتني.
دنيا جديدة
ومرت السنوات، إلى أن جاءت الواقعة التي غيرت مصيري ومسار حياتي وأدخلتني إلى دنيا أخرى لم تكن تخطر لي في بال، فقد ربطتنا آنذاك صداقة عائلية مع جان خوري بحكم أن زوج أخته كان ضابطاً ومن أصدقاء زوجي. كان جان منتجاً وموزعاً سينمائياً مرموقاً وصاحب شركة إنتاج معروفة تدعى الشرق كما أن زوجته مارسيل هي شقيقة المخرج يوسف شاهين، وأنجب جان ومارسيل اثنين من أبرز صناع السينما المصرية الآن: غابي وماريان خوري.
وفي واحدة من إجازات عادل تلقينا دعوة على سهرة عائلية في بيت جان ومارسيل، وفي تلك الليلة وهذه السهرة كنت على موعد مع القدر، فقد كان بين المدعوين المنتج المبدع رمسيس نجيب الذي ارتبط اسمه بعشرات من أنجح الأفلام في تاريخ السينما، كما كان يمتلك عين جوهرجي مدربة وقادرة دوماً على اكتشاف الجواهر الثمينة من أول نظرة. وبتلك النظرة الخبيرة، وبعد أن تفحصني ملياً طوال السهرة، اقترب مني رمسيس نجيب وسألني بابتسامة محايدة: مدام بولا.. انتي بتحبي السينما؟، كان السؤال مباغتاً لي وغريباً، فأجبت بحياد: طبعا.. مين ما يحبش السينما، فإذا به يفاجئني: تحبي تمثلي في السينما؟!، ارتبكت لثواني ثم أجبته: الحقيقة عمري ما فكرت أكون ممثلة.لم يعطني فرصة للتفكير فراح يشرح لي أنه يجهز لفيلم جديد اسمه «سلطان» مع نجم الشباك وقتها فريد شوقي، ودور البطولة النسائية فيه لصحافية شابة بريئة ويجري استغلال براءتها في الإيقاع بمجرم عتيد، وأنه يفضل إسناد الدور لوجه جديد حتى يكون أكثر إقناعاً، فالجمهور ملّ من وجوه الممثلات اللواتي احترفن أدوار البراءة.
السينما تجدد دماءها
وهنا أتوقف لأشير إلى ملاحظتين في غاية الأهمية، بالنسبة إلي على الأقل: الأولى: أن الموضوع لم يكن مجرد بحث عن وجه جديد في فيلم جديد، بل كان أكبر من ذلك وأعمق، لم يكن رمسيس نجيب يبحث عن بطلة لفيلم، بل كانت السينما المصرية هي التي تبحث عن وجوه أخرى تجدد بها دماءها وتتناسب مع مرحلة جديدة من التاريخ المصري بدأت صفحاتها بعد ثورة يوليو. الملاحظة الثانية: وهي أن الفن كان بالنسبة لي قدر، ولا راد لقضاء الله وقدره، وصحيح أن احتراف التمثيل لم يكن على خريطة حياتي، لكن دعني أقول أيضاً أن السينما كانت حلماً من أحلام كل بنات جيلي، لا تصدق بنتاً تقول لك أنها لم تحلم بالسينما وأضواءها، بهذا العالم الساحر بكل ما فيه من خيال وغموض ومتعة، وكان عندي من الوعي منذ البداية لأن أدرك عظمة هذه المهنة ومدى تأثيرها، ولذلك خَشَيتُ عندما عرض عليّ رمسيس نجيب بطولة «سلطان»، خَشَيتُ من المسؤولية وألا أكون جديرة بلقب فنانة. وربما كان من حسن حظي أن العرض جاء من منتج له مكانة رمسيس نجيب وسمعته الطيبة أخلاقياً وفنياً، ولا بد أن أوضح أن العرض لم يكن على «بياض» كما يقولون، بل كان مشروطاً باجتياز اختبار كاميرا، وأذكر أن المصطلح استوقفني وسألت الأستاذ رمسيس بفضول: اختبار إيه.. هو أنا داخله مدرسة؟، فراح يشرح لي: لازم الكاميرا تحبك وتوافق عليكي.. ممكن تبقى ملكة جمال الكون والكاميرا يبقى لها رأي تاني.