طالما سألت نفسي لماذا هناك مطبخ تركي واخر ايراني ولبناني وهندي ومصري وغيرها وليس هناك مطبخ عراقي معترف به دولياً. ؟!
وبدا ان الجواب على هذا السؤال يحتاج الى عودة وبحث في الماضي السحيق لتاريخ الطعام في بلاد الرافدين.
أذ ان المطبخ العراقي واحداً من أغنى المطابخ في العالم القديم والحديث ، ليس فقط من حيث تنوع أطباقه ونكهاته، بل لما يحمله من إرث حضاري ضارب في عمق التاريخ.
فالعراقيون، على مر العصور، كانوا ولا يزالون ينظرون إلى الطعام على أنه أكثر من حاجة يومية، بل هو فعل ثقافي واجتماعي، يرتبط بالفرح والمناسبات والطقوس.
تتخيلون مدى غنى المطابخ الاثرية العراقية السومرية والأكدية ، وتتوقعون ان البابليين كان يعرفون اكثر من 100 نوع من الشوربة فقط ؟!!
اما في العراق المعاصر، أصبح قطاع المطاعم من أنشط الاستثمارات وأكثرها نمواً، لا سيما في العاصمة بغداد، حيث تشير مصادر غير رسمية إلى افتتاح مطعمين كبيرين أسبوعياً، ليقترب العدد الكلي من خمسة آلاف مطعم، إلى جانب الآلاف من المطاعم الشعبية الصغيرة.
وتشير تقديرات اقتصادية إلى أن هذا النشاط يساهم بما يزيد على 70% من حجم المشاريع الاستثمارية الخاصة في البلاد والله اعلم .
وليس ذلك بمستغرب في بلد يولي أهمية خاصة للطعام في جميع المناسبات: من الزواج والولادة، إلى الشفاء من المرض، والعودة من السفر، والنجاح الدراسي، وحتى إطلاق السراح من السجن.
وتُعدّ الولائم تقليداً اجتماعياً أصيلاً، تُعبّر من خلاله العائلات العراقية عن الفرح، والكرم، والانتماء.
ويمتاز المطبخ العراقي بتنوعه الكبير؛ فهناك الأطباق الغنية والدسمة مثل الدولمة والمقلوبة والتشريب والكباب والباچة والبرياني والمسكوف والقيمة والكبة بأنواعها، إلى جانب الأكلات البسيطة مثل اللبلي والشلغم والشوندر والعروگ، ناهيك عن الحلويات والمشروبات مثل شراب الزبيب والنومي بصرة والبلانكو.
كما تُعرف “قائمة المرق” العراقية بتنوعها الذي يشمل البامية والفاصوليا ومرق القيسي والسبيناغ والفسنجون وغيرها.
ويُلاحظ أن غنى المائدة العراقية يعكس تنوع البنية الحضارية للمجتمع، على عكس مطابخ البداوة التي تفتقر غالباً إلى هذا التنوع بسبب طبيعة الترحال.
أما من الناحية التاريخية، فقد كشفت الأبحاث الأثرية أن المطبخ العراقي يمتد إلى أكثر من أربعة آلاف عام، حيث وُجدت في مكتبة جامعة “ييل” الأمريكية نصوص مسمارية تعود إلى العصر البابلي، كُتبت باللغة الأكدية، تتضمن وصفات تفصيلية لطهي اللحوم والخضار والشوربات، مع تحديد أنواع التوابل المستخدمة.
وقد ظن الباحثون في البداية أنها نصوص طبية، قبل أن يكتشف الباحث الفرنسي “جان بوتيرو” أنها وصفات طهي، فدوّنها في كتابه الشهير “نصوص مطبخية نهرينية”، وهو من أوائل الكتب التي تناولت تاريخ الطبخ في العراق القديم.
ومن أبرز ما ورد في تلك النصوص طبق “التشريب”، الذي يعود إلى آلاف السنين، ويتكوّن من لحم مسلوق وخضار وتوابل، يُقدم مع الخبز العراقي، ولا تزال العائلات العراقية تقدّمه إلى يومنا هذا كوجبة أساسية يومية.
ولا يمكن الحديث عن المطبخ العراقي دون التوقف عند طبق “الدولمة” الذي أصبح رمزاً وطنياً للمائدة العراقية، على الرغم من أنه مشترك بين عدة ثقافات، إلا أن النكهة العراقية منحته تفرداً لا يُضاهى.
وفي العصر العباسي، بلغت فنون الطهي ذروتها في بغداد، فانتشرت المطابخ في القصور والخانات، وظهر طهاة مهرة ومؤلفات متخصصة، من أبرزها كتاب “الطبيخ” لابن سيار الوراق، الذي وثّق عشرات الوصفات، وبيّن فوائدها الصحية وأسلوب تقديمها، في ما يشبه كتب “الإتيكيت” المعاصرة.
ولعل ما يؤسف له أن كثيراً من الرقم الطينية التي توثق هذا التاريخ الغذائي لا تزال مفقودة أو محتجزة في المتاحف العالمية أو مراكز الأبحاث الغربية، ما يحد من قدرتنا على إعادة بناء الصورة الكاملة للمطبخ الرافديني العريق.
لكن المؤكد أن العراقيين، كما هم في الشعر والفن والعلم، كانوا روّاداً في فن الطهي، وأنهم احتفظوا عبر الأجيال بوصفات تعكس ذوقهم الرفيع وكرمهم الأصيل.
اخيرا سامحوني أذا شعرتم بالجوع بعد الفراغ من هذا المقال .