رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
قصة صمود أبطالها مدن (الصدر والشعلة والحرية) صرائف بغداد ... من الإقطاع الى التحضر..


المشاهدات 1145
تاريخ الإضافة 2025/04/16 - 8:47 PM
آخر تحديث 2025/04/19 - 3:49 PM


يُعد نظام الاقطاع في العراق من أقدم النظم الاقتصادية والاجتماعية التي امتدت جذورها إلى عصور السومريين والبابليين، وتم استغلال ضعف الفلاحين بأساليب مُقاربة للاستعباد. 
فقد ظل يعمل في أرضه من أجل تأمين قوته وحماية أسرته، إذ كان يُستعبد ويعمل كأجير مقابل غلات موسمية زهيدة لا تُعادل حجم الجهد المبذول في أعمال الحراثة والزراعة والرعاية على مدار العام سواء في الصيف أو الشتاء. وكل موسم حصاد، كان يأتي “الأقطاعي”  ليأخذ معظم المحصول، تاركاً الفلاح وذويه  في حسرة.
ومع دخول العهد العثماني، ازدادت قوة الهيمنة الاقطاعية بعد صدور فرمان عام 1861، الذي أتاح للمتنفذين امتلاك الأراضي الزراعية الشاسعة مقابل دفع حصة للدولة العلية. واستمر هذا النظام في العهد الملكي، أذ أدخل الإنجليز مزيداً من الهيمنة السياسية إلى جانب هيمنة الملاك. وبرز حينها ظهور شيوخ العشائر الذين دخلوا الحياة السياسية والنيابية، بينما تُركت إدارة المزارع والأراضي لأشخاص يُعرفون باسم “السركال” أو “السركار”، أي رأس العمل، وهم المسؤولون المباشرون عن التعامل مع الفلاحين وإدارة أعمالهم.
كان تدخّل الشيوخ والسركالية في التفاصيل الدقيقة لحياة الفلاحين الاجتماعية سبباً في انشغالهم بتلك الشؤون حتى بلغت حدود الاستبداد؛ فقرر الكثير من الفلاحين الهروب من ظلمهم وهجرة أراضيهم ومزارعهم إلى المدن الكبيرة، مثل البصرة ثم بغداد. 
وقد بدأت تلك الهجرة بشكل تدريجي في بداية تأسيس الجيش العراقي عام 1920، حيث وجد النازحون فرصة للالتحاق بالسلك العسكري وتأمين مصدر دخل ثابت، الأمر الذي شجع على هجرة جماعية من الفلاحين إلى العاصمة. وفي بداياتها، شكلت الهجرة عاملاً إيجابياً مع ازدياد أعداد المصانع والمعامل في بغداد وحاجة الأسواق المتزايدة إلى الأيدي العاملة.
ورغم فقرهم وظروفهم المعيشية الصعبة، انتقل المهاجرون إلى خانات بغداد ذات الإيجارات الزهيدة التي لا تتجاوز 25 فلساً، ومع مرور الأيام تطور الوضع، فأصبحت ظاهرة “الصرائف” هي المأوى الذي يلجأ إليه هؤلاء؛ وهي مساكن متنقلة تتكوّن من غرفة صغيرة تُعرف بالصريفة، مبنية من بارية وعيدان قصب وخشب مدعومة بجدران طينية تُسهل تفكيكها ونقلها عند الحاجة. وقد ظهرت أولى الصرائف حول محطة قطار شرقي بغداد، لتتوسع فيما بعد لتغطي مناطق مثل “الخندق” في منطقة الرصافة، وفي الجانب الكرخ تشكل تجمع آخر .
أدت الأحداث التاريخية والتدخلات الأجنبية، وبخاصة الاحتلال البريطاني الثاني للعراق بعد سقوط رشيد عالي الكيلاني عام 1941، إلى زيادة الضغط على الفلاحين واستمرار هجرة النازحين إلى بغداد. فقد قام الاحتلال بتمركز قواته في المدن وإقامة معسكرات للجنود، مما خلق فرصاً عمل إضافية وشجّع المزيد من أبناء الريف على الهجرة. 
وهكذا تشكلت أحياء جديدة في بغداد من الصرائف، أهمها منطقة الشاكرية التي امتدت على مساحة 25 كيلومتر مربع، وكانت تُعتبر مأوى للفقراء والمهمشين.
تتميز الصرائف بأوضاع معيشية وصحية بائسة؛ فهي مساكن مظلمة وعديمة النوافذ تجمع الأسرة مع الحيوانات كالدجاج والحيوانات الأخرى، مما يؤدي إلى تلوث الغذاء وارتفاع معدلات وفيات الأطفال التي وصلت أحياناً إلى 341 حالة وفاة لكل ألف طفل. كما أن الفيضانات السنوية كانت تضاعف من معاناة هؤلاء السكان، إذ كانت المناطق المهملة خارج نطاق خدمات البلدية والصحة، ما جعلهم يعتمدون على موارد محدودة مثل حنفية ماء لا تكفي إلا لقلة من الناس.
بعد ثورة 14 تموز 1958، حينما تولى الزعيم عبد الكريم قاسم قيادة العراق وتحولت البلاد من الحكم الملكي إلى الجمهوري، بدأ قاسم بمعالجة مأساة سكان الصرائف. 
فعين وزير الأشغال والإسكان حسن رفعت لرئاسة لجنة للنظر في مشكلة الصرائف، وفي تشرين الثاني 1960 تشكلت “لجنة الترحيل وتوزيع الدور والأراضي” برئاسة المهندس معروف بوتان جياووك. 
وقد قامت اللجنة بتوزيع 22 ألف قطعة سكنية بمساحات تتراوح بين 144 و150 متراً مربعاً في منطقة سميت فيما بعد بمدينة الثورة (مدينة الصدر حالياً)، بهدف ترحيل أصحاب الصرائف إلى مساكن جديدة وتحسين ظروف معيشتهم بإدخال المرافق الحضرية العصرية مثل الطرق المعبدة والمدارس والمستوصفات وخدمات المياه والكهرباء.
كما تم إنشاء مشاريع أخرى في مناطق الكرخ، حيث أعلن حسن رفعت ومساعد عبد الكريم قاسم عن مشروع لإنشاء مدينة جديدة باسم الشعلة لاستيعاب حوالي 20 ألف عائلة من سكان الصرائف، خاصة من مناطق الشاكرية والوشاش والكاظمية. 
ورغم محاولات الدولة تقديم منح مالية لإعادة توطين المهاجرين، استمر البعض في رفض المغادرة بسبب قربهم من أماكن عملهم، ما استدعى تدخل الشرطة لترحيلهم قسراً وفقاً للقانون.
بعد سنوات دبت الحياة في مدن بغداد الشعبية التي انشأها عبد الكريم قاسم كالثورة والشعلة والحرية وغيرها، وصارت مدن حقيقية وذابت في مدينة بغداد ثم ضمت الأهالي من جميع أنحاء العراق، وخرج من هذه المدن العلماء والفقهاء والثوار والسياسيين والفنانين والأدباء وأبرز الرياضيين من الذين أثروا الفضاء العراقي بالتميّز والإبداع.
هكذا تحول واقع الصرائف من مأساة معيشية وإنسانية إلى نقطة انطلاق لتشكيل مجتمعات حضرية جديدة أسهمت في صناعة مستقبل الدولة، رغم أن ذكريات الاستغلال والظلم لم تُمحَ من الذاكرة الجمعية للشعب العراقي. وتظل قصة صرائف بغداد شاهداً على صمود فلاحٍ مكلوم تحول إلى التحضر بعد سلاسل الظلم والاستبداد .


تابعنا على
تصميم وتطوير