في عالم الإعلام الذي يشهد تحولات سريعة، لم تعد التحديات مقتصرة على الأنظمة القمعية أو البيئات غير الحرة فقط، بل باتت المؤسسات الإعلامية نفسها – بما في ذلك المستقلة وغير الحكومية – مصدرًا آخر للمخاطر، إذ تتخلى في بعض الأحيان عن صحفييها في لحظات حرجة، بغض النظر عن حجم مساهماتهم أو مكانتهم. هذه الحقيقة، التي أصبحت واقعًا متكررًا، تطرح سؤالًا جوهريًا: من يُؤمّن الصحفي؟
تجارب عديدة أثبتت أن لا مؤسسة إعلامية، مهما بدت قوية أو مستقرة، يمكنها أن تضمن الأمان الوظيفي للعاملين فيها. فالمشهد الإعلامي غالبًا ما يتأثر بالمصالح المتغيرة والسياسات المتقلبة، مما يجعل الصحفي في كثير من الأحيان الحلقة الأضعف في المعادلة بين التمويل والتحرر. من هنا، تكمن أولى الحقائق التي يجب على الصحفي إدراكها: لا أمان وظيفيًا حقيقيًا في هذه المهنة، ولا مكان للولاء المطلق.
الأمان الوحيد الذي يمكن أن يتحصن به الصحفي يكمن في استعداده الدائم والوعي الكامل بواجباته المهنية. الصحفي المحترف هو الذي يحافظ على مسافة آمنة بينه وبين المؤسسة التي يعمل فيها، ولا يسمح للتوجهات السياسية أو العلاقات الشخصية بأن تطغى على أدائه المهني. يتعين عليه أن يتجنب الانغماس في صراعات لا تعنيه مباشرة، بل أن يظل دائمًا في موقع يسمح له بالعودة أو المغادرة دون ضجيج أو خسائر. كما أن التعامل مع الفرص المهنية يجب أن يتم وفق معايير واقعية لا تتسم بالمثالية المفرطة. قد تبدو بعض العروض مغرية على السطح، لكنها قد تخفي في طياتها بيئة غير مستقرة أو أكثر هشاشة. عند العمل خارج الحدود، من الحكمة أن يتحلى الصحفي بالتوازن والهدوء، فالمستقبل قد يعيده إلى ذات النقطة التي انطلق منها، وقد يجد نفسه في ظروف أصعب.
في ظل التحولات المستمرة في صناعة الإعلام، لم يعد من المقبول التمسك بأساليب كلاسيكية أو تقاليد قديمة. الصحافة اليوم تتطور بسرعة، ومن لا يواكب هذا التطور يواجه خطر التراجع. الحضور الرقمي، الذي كان في الماضي ترفًا، أصبح اليوم جزءًا أساسيًا من الهوية المهنية للصحفي. حسابات الصحفي على منصات التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد إضافة، بل صارت أداة حيوية لبناء الجمهور وتعزيز الثقة والتأثير. أما في ما يتعلق بالاستقلال المالي، فإن تعدد مصادر الدخل يعد ضرورة لضمان الاستقرار المهني والحرية الشخصية. الاعتماد على مصدر دخل واحد، مهما كان مغريًا، يشكل خطرًا يهدد الاستقلالية. الصحفي الذي يعتمد على تنويع مصادر دخله، سواء من خلال مشاريع جانبية أو تخصصات متعددة، يتمكن من الحفاظ على حريته المهنية والمالية. في نهاية المطاف، تبقى الاستقلالية والحياد جوهر العمل الصحفي. الصحفي الذي يذوب في مؤسسته أو يتحول إلى أداة في يد جهة معينة يفقد مصداقيته ويدمر سمعته. أما الصحفي الذي يحافظ على توازنه بين المهنية والحرية، فيظل صوته مستقلًا ورسالتُه واضحة، حتى وإن تغيرت الظروف والأماكن.
من يُؤمّن الصحفي؟
الإجابة تكمن في وعي الصحفي، وفي قدرته على التكيف مع التحولات المستمرة في المشهد الإعلامي. الصحافة هي مهنة الحرية، لكنها أيضًا مهنة المجازفة. ومن لا يتقن إدارة هذه المجازفة بحذر، قد يجد نفسه في النهاية خارج الدائرة، بلا صوت وبلا سند.