يُطرح سؤال على درجة كبيرة من الخطورة والأهمّية حول هذه «القدرة الاستثنائية» التي تمتلكها المجتمعات الغربية في صناعة الثقافة المعادية للآخر، وبالخصوص تلك التي تستهدف العرب والمسلمين.
ولم يعد هذا الوعي المعادي للآخر يقتصر على حركات اليمين المتطرّف والحركات القومية والشعبوية، بل تعدّاها إلى أحزاب سياسية أكثر اعتدالا وأحزاب حُكْمٍ. والملاحظ أنّ هذه الثقافة شاملة في رفضها للآخر، فهي ترفض التعايش معه وتخشى استمرار وجوده في مجتمعها الغربي، وهي أيضا ترفض وبشدّة آراءه المتعلّقة بعدد من القضايا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وتؤثّث هذه المجتمعات الغربية خطابها لتحقيق أهدافها في إقصاء الآخر ورفض أيّ مواقف مختلفة مع ما تتبنّاه من سياسات مختلفة، باعتماد مواقف متطرّفة وانتقائية حول الهويّة وبمحاولة نسف الأسس الفكريّة لأيّ تنوّع واختلاف فكري وسياسي.
وكثيرا ما نتفاجأ بمواقف الغرب الليبرالي المعادية لجملة من القضايا، وأهمّها قضية الشعب الفلسطيني التي تدوم مأساته منذ أكثر من سبعة عقود، وقد أمكن معاينة هذا «العداء الفطري» في أكثر من مرّة، آخرها ردود الفعل العنيفة التي عبّرت عنها عدد من الأطراف السياسية الفرنسية، وكذلك مجمل المنابر الإعلامية، حول تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخصوص احتمال الاعتراف بالدولة الفلسطينية وفقا لما تقرّه الشرعية الدولية. وترى هذه الأطراف أنّ مجرّد هذا الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمثّل تهديدا لأمن واستقرار دولة الاحتلال الاسرائيلي الغاشم، لتنسى بذلك أنّ السند الأساسي في هذا الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو القانون الدولي وقرار الشرعية الدولية التي وضعت أسسها الدول الغربية ذاتها.
ونعتقد جازمين أنّ الغرب الليبرالي لم يتمكّن إلى حدّ الآن من تجاوز عقدته كمُستعمِر سابق وهو ما زال يتصرّف بمجتمعاتنا وقضايانا وِفْقَ هذه العقدة التي تتأسّس على اعتبار أنّ من هم خارج «نادي الحضارة» الذي يجمع دوله والذي يخوّل التمتّع بالحقوق، فإنّ باقي البشرية «هَمَجٌ» بلا حقوق معترف بها وقد لا يستحقّون الحياة. ومن المفارقات المضحكات المبكيات أنّ الإعلان المحتشم والخجول للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بخصوص احتمال الاعتراف بالدولة الفلسطينية، قابله تحفظّ كبير من رئيس حكومته الذي تعلّل بـ» التوقيت الخطأ» للإعلان، وحدد وزير داخليته في تصريح له أوّل أمس عناصر الهوية التاريخية الفرنسية حصرا في أصولها المسيحية واليهودية ومَحْوَرَها حول حضارة باريس وروما والقدس، وهي رواية تلقى القبول الكامل لدى الفكر الصهيوني الذي يسعى إلى تغيير هويّة القدس المحتلة واقتلاعها من جذورها العربية الإسلامية.إنّ المغالاة والتطرّف في المواقف يسهّل على المغالين في المنظومة الليبرالية تطوير خطاب الحقدّ ضد العرب وقضاياهم بما قد يتلف حقوقهم أو يرحّلها إلى أجل غير مسمّى، وإنّ عقدة المستعمر وإن كان سلوكاً غربياً خالصاً، فإنّها تجد بعض ما يبرّرها في بعض ما يأتيه بعضنا.