في زمن تحول فيه العالم إلى شاشة، وأصبح الهاتف الذكي نافذتنا الأولى للعالم، نشأت ظاهرة جديدة تدعى “صناعة التفاهة”، حيث باتت الشهرة تُمنح بلا استحقاق، ويصفق لها جمهور ضخم، يُغذيها ويمنحها شرعية البقاء.
عبارة “وراء كل تافه مشهور، جمهور أتفه منه” ليست محض تهجم أو قسوة في الوصف، بل تعبير صادم عن واقع أصبح من الصعب إنكاره. فحين يتصدر “مشاهير التحديات السخيفة” أو “ملوك الفضائح اليومية” واجهات المنصات، ويجنون الأموال الطائلة ويساقون إلى المقابلات والبرامج، لا بد أن نسأل: من الذي منحهم هذا المجد؟ من صفق لهم أولا؟ ومن أعاد نشر محتواهم؟ الإجابة: الجمهور.
لم يكن محتوى هؤلاء “المشاهير التافهين” ليتجاوز عتبة الانتشار لولا تعطش البعض للضحك السهل، أو الفضول الساذج، أو حتى الشعور بالتفوق على أولئك الذين يقدمون أنفسهم ببلاهة. إنها متعة السخرية من الآخرين، التي تحولت إلى سوق ضخم. وهكذا، كلما زادت قلة القيمة، زادت نسب المشاهدة، فصار التافه مطلوبا، لا لأنه مفيد، بل لأنه يُلهي.
تدفع خوارزميات المنصات نحو المحتوى الذي يثير التفاعل، لا الذي يحمل القيمة. لا فرق لديها بين عالم يفسر الظواهر الفيزيائية، ومراهق يرقص في موقف سيارات. الأهم: من يُشاهد أكثر؟ من يُعلق أكثر؟ ومن يثير الجدل؟ وهنا يجد التافه فرصته الذهبية: كلما أثار الضجيج، كلما ارتفعت أسهمه.
لا يمكن إعفاء “المشهور التافه” من المسؤولية، لكنه في النهاية سلعة في سوق وجد من يشتريه. إنه يجيد قراءة طلبات السوق، فيلبيها بلا خجل. أما اللوم الحقيقي، فيقع على جمهور يكافئ السطحية، ويهمش الجدية، ويهاجم من يحاول أن يرفع منسوب الوعي.
في المقابل، لا يخلو الفضاء من أصوات واعية ومحتوى راقٍ، لكن الوصول إليه يتطلب جهدا. وربما هنا تأتي مسؤولية كل فرد: أن يُحسن ما يشاهد، ويحسن ما يشارك، وألا يُسهم – حتى بسخرية – في رفع شأن من لا يستحق. فالإعجاب، المشاهدة، المشاركة، كلها أصوات في صندوق الانتخاب الرقمي. ومن ننتخبه اليوم، سيكون نجم الغد.
وراء كل تافه مشهور، جمهور تافه فعلا. لكن هذا الجمهور ليس قدرا. يمكن لكل منا أن يكسر الحلقة، أن يتوقف عن التهليل للفراغ، أن يدير وجهه عن المبتذل، ويبحث عمن يستحق. فكما يقال: “قل لي من تتابع، أقل لك من أنت”.
هل نريد أن نبني مجتمعا واعيا؟ إذا، لنبدأ بإغلاق الأبواب أمام التفاهة، واحدة تلو الأخرى.