منذ العام ٢٠٠٣ واجهت الحكومات المتعاقبة مشاكل متعددة منعتها من تأمين الفرص الملائمة لتكوين مستقبل مشرق لشباب العراق، الأمر الذي أدى الى تفاقم شعور الإحباط بين أفراد المجتمع. هذا الإحباط تراكم مع مرور الزمن وأصبح الدافع الرئيس وراء مشاركة الشباب في احتجاجات تشرين عام ٢٠١٩، حيث أنعكس ذلك في مشاركة واسعة من مختلف المحافظات العراقية. كان هذا الحراك الشعبي بمثابة صوت عالٍ للمطالبة بتغيير النظام السياسي الذي طالما ظل منفصلاً عن تطلعات وطموحات المواطنين. لقد شكلت إحتجاجات تشرين نقلة نوعية في المشهد السياسي والاجتماعي، إذ انتقلت المطالب من مجرد نداءات التمدن وتطبيق الديمقراطية الى دعوات أكثر عمقاً تمثلت في شعار “نريد وطن”. لقد كانت الهوة المتزايدة بين النظام السياسي والمجتمع نتيجة مباشرة للفساد المنتشر في مؤسسات الدولة، الى جانب الإنتهاكات الإعتباطية لحقوق العراقيين وسلب حرياتهم. ولم تقتصر أسباب الإحتجاج على ذلك فحسب، بل أضاف ميل بعض الأحزاب الإسلامية الى إستبعاد الجماعات المدنية من المشاركة في العملية السياسية بعداً أخر من أبعاد الأزمة. لم تكن هذهِ الإحتجاجات مجرد حراك شعبي يطالب بتوفير فرص عمل أو رواتب رعاية إجتماعية، بل كان بمثابة تغيير إجتماعي جذري أستهدف إيقاظ الوعي الجماعي لمواجهة الإنهيار السياسي الذي كان يهدد إستقرار النظام. فالعراق دولة تبحث عن أمة متكاملة الهوية كما وصفها عالم الإجتماع العراقي فالح عبدالجبار، ومن هنا برزت الحاجة المُلحة لإعادة صياغة المستقبل السياسي والإقتصادي على حد سواء. ففي ظل هذا التحول الإجتماعي السريع الذي رافق التطور البطيء لمؤسسات الدولة برزت جماعات جديدة في المجتمع، ساهمت في دعم المجالات السياسية والإقتصادية. فأصبحت الدعوات للمشاركة في الانتخابات تزداد يوماً بعد يوم، إذ أعتبرها الكثيرون وسيلة لتعزيز بنية السلطة الشعبية في أختيار القادة الذين يستطيعون تحقيق العدالة وضمان الحقوق والحريات لجميع المواطنين. وإن إيجاد نظام شرعي يعكس إرادة الشعب كان ولا يزال الحل الأساس لمواجهة الفساد وتجاوز الأزمة السياسية التي طال أمدها. فضلاً عن توجيه الشباب نحو القطاع الخاص، الأمر الذي يساعد في تخفيف الإعتماد المفرط على عائدات النفط العالمية التي تشكل أكثر من ٩٠% من إقتصاد العراق. ومن خلال ذلك تمت مضاعفة توظيف الجماعات الجديدة في أدوار متعددة داخل المجتمع، مما يعكس مدى قدرة هذه الحركة على دفع عجلة الإصلاح والتحديث في كافة المجالات. وهذا ما يميز المجتمعات الفعالة عن المجتمعات الخاملة والمتخلفة. فلقد أصبحت هذه التجربة بمثابة قوة دافعة نحو إصلاح شامل يقوم على مبادئ العدالة والشفافية، وهو النهج الذي حاولت الحكومات التي تلت تشرين تبنيه ولو بنسب ضئيلة، حفاظاً على إستقرارها وسط مطالب الشارع المتعطش للتغيير. ولا يمكننا إغفال المقارنة التي أُجريت بين إحتجاجات تشرين والثورات التاريخية مثل الثورة الفرنسية، إذ إن الأخيرة جاءت بعد عصر طويل من التنوير والتأهيل الثقافي للمجتمع الفرنسي، في حين أن إحتجاجات تشرين بعد إنتهائها فتحت مرحلة جديدة من تشكيل الوعي السياسي والإجتماعي لدى الشباب العراقي. فقد تمكن المحتجون من غرس فلسفة الرفض في نفوس زملائهم، بحثاً عن معنى الحرية التي تتشكل من رماد الظلم الذي ألقي على أحلامهم وطموحاتهم. وفي خضم هذا التحول ظل الشعار الرنان “نريد وطن” هو المُلخص الأبلغ لمعاناة الشعب العراقي، حيث عبر هذا النداء عن رفضهم للتشتت والجور وإستعدادهم لإعادة بناء وطن يستحقون الحياة فيه. هكذا أصبحت احتجاجات تشرين رمزاً للتغيير والنهضة، تجسد رغبة أجيال من الشباب في إستعادة كرامتهم وإرساء أسس دولة عادلة تضمن حقوقها الأساسية للجميع.