رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
تبذير العمر بقراءة كتابات تُفقِر العقل


المشاهدات 1142
تاريخ الإضافة 2025/03/26 - 11:27 PM
آخر تحديث 2025/03/31 - 2:37 AM

بعض الكتّاب ضائع لا يدري ما يريد، فيضيِّع القارئَ غير المتمرّس معه.كنتُ أجرّب التعرّف على الكتب بداية مطالعاتي، أقرأ أحيانًا كتابًا من الغلاف إلى الغلاف بصبرٍ مرهق على الرغم من نفوري منه، وعدم قدرتي على فهم ما يريده الكاتب، وكأن امتحانًا مفروضاً عليّ بهذا الكتاب. وقعتُ ضحيةَ ذلك قبل أن تتراكم تجاربي، وأكتشف أن المطالعة تعني ضرورةَ تذوّق القارئ للنصّ، التذوق حالة للذات لا تنوب عنها أيةُ ذات أخرى. اكتشفتُ أن ما يُفقِر العقلَ ويشيع الجهلَ من الكتب أكثر بكثيرٍ مما يوقظ العقلَ ويبعث الوعي. ربما تقرأ كتابًا واحدًا يوقظ عقلَك ويجعله يفكّر بعمق، وربما تقرأ مكتبةً كاملة من الكتب الرديئة، لا تفقر عقلَك فقط بل تخدره وتغرقه في حالة سبات، وتجعلك عاجزًا عن التفكير العقلاني بأيّ شيء، إن استسلمتَ لما ورد فيها من أكاذيب وأوهام وخرافات. يتناسب انتشارُ هذه الكتب تناسبًا طرديًا مع تفشي الجهلُ وانحطاطِ الوعي، الجهلُ بيئةٌ خصبة لتفشي هذا النوع من الكتابات. الكتبُ الرديئة تطردُ الكتبَ الجيدة، مثلما يقال: «النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق». كشفتْ لي تجربةٌ في المطالعة بدأتْ منذ مرحلة الخامس الابتدائي أن أكثرَ الكتب المعروضة للبيع يضيع فيها العمر ويُهدَر فيها المال، مضافًا إلى أن بعضَها يتشوش معه التفكير، وأحيانا يتعطل العقل، وتفسد الذائقةُاللغوية. بين حين وآخر ألجأ إلى استبعاد كتب أخطأتُ في شرائها. ما يبلِّد العقلَ ويشيع الجهلَ هو الأكثر مبيعًا وانتشارًا، على الرغم من أنه لا قيمةَ له. أشعر بالضجر عند قراءة أكثر كتابات ما يسمى بـ :»التنمية البشرية»، أو «تطوير الذات»، أو «علم الطاقة النفسية». وجدالكاتبُ الهندي ف.س.نايبول الحائز على جائزة نوبل 2001، أن أهل الغابون يؤمنون بأن كل شيء على الأرض هو «طاقة» في البشر والحيوان والنبات. قال له أحدُ الزعماء المحليين: «كل واحد منّا عبارة عن بطارية، وفي رؤيتنا للعالم نعتقد أن حتى الحيوانات هي بطارياتٌ أيضاً، وإذا ما مات أحدٌ في العائلة فإن هذا يعني أن عضواً آخر قد سُرقت منه طاقتُه. ونحن نذهب أيضاً إلى ساحة القبيلة إذا أردنا سرقة الطاقة من شخص آخر. مجتمعنا أموميّ، وننتمي إلى عائلة الأم، كما يعد الشقيق الأكبر للأم رأس العائلة مطلق القوة. ولذا إذا ما توفي ابن شقيقة ما، يشتبه بأن الخال قد أخذ طاقته». تتضمن كتاباتُ علم الطاقة وأشباهُها أوهامًا وأساطيرَ ومفاهيمَ غير علمية، وعباراتٍمتعجّلة، وشعاراتٍ مبسّطة مكرّرة، تتلاعب بمشاعر الناس.  أضحى ركامُ هذه الكتابات مبتذلًا، يأكلُ وقتَ القراءِ غيرِ الخبراء، وتستنزفُ توصياتُها الواهنة تفكيرَهم، ولغتُها الرثة بيانَهم. تفشّت هذه الكتاباتُ الساذجة التي تجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ كالوباء بين القراء في السنوات الأخيرة، وأوهمت عددًا منهم بأنها تعالج كلَّ متاعبهم النفسية. أكثرُ هذه الكتابات هزيلٌ، لا يقع في فتنتها إلا الناسُ المغفلون، الذين لا يفكّرون بتأملٍ ورويةٍ وتدقيق، ولا يمكن أبدًا أن تغوي العقولَ الحكيمة اليقظة. هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضاتِالذاتية في الإنسان، وتتعاطى معه كأنه كائنٌ آلي. يشبه هذه الكتاباتِ في الجهل بحقيقة الطبيعة الإنسانية أكثرُ التوصياتِ الجاهزة والعبارات المتداوَلة بين الناس. لا يكترث علمُ النفس وعلومُ الإنسان والمجتمع الحديثة وعلمُ الأعصاب كثيرًا بهذه التوصيات الزائفة لكتابات تشدّد على نصائح وإرشادات، من قبيل: «لا تحزن»، «لا تكتئب»، «لا تقلق»، «لا تتشاءم»، «لا تتألم»، «لا تنزعج»، «لا تغتم»، «لا تتأرق في نومك»، «كن حازمًا وجادًا»، «تأقلم مع الظروف بدلًا من تضييع الوقت بالتفكيرِ الزائد»، «استمتع باللحظة الحالية»، وأمثالِها من وصفات جاهزة لشخصٍ يمارس الطبَّ من دون أن يتعلمه. أكثر هذه التوصيات والوصفات ضدّ التفكير العقلاني العميق، وضدّ علم النفس وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة وعلم الأعصاب. هذه كتابات تجهل الطبيعةَالإنسانية المركبة المعقدة العميقة، ولا تدرك تناقضاتِها، والعقدَالتربوية والأمراض النفسية المتنوعة والمختلفة المتفشية بين الناس، وتجهل ضرورةَ مراجعة المصابين بالأمراض النفسية والعصبية للعيادات والمصحات النفسية والعصبية لمعالجة هذه الأمراض، من دون مراجعة العيادات المختصة لا يشفى أو يسكن هؤلاء المرضى، ولا تتخلّص عوائلهم والناسُ من حولهم من الآثار الموجِعة لإصاباتبعضهم الحادة المؤذية للغير.   كثيرٌ من متاعب الحياة تنشأ من خذلان الإرادة. المعرفةُ وحدها لا تكفي، طالما عرف الإنسانُ الضررَ والآثارَ الموجعة لأفعاله، غير أنه يفشل كلَّ مرة في الكفّ والامتناع عن تكرار هذه الأفعال. بناءُ الإرادة وتكريسها غير تحصيل المعرفة وتراكمها، لكلٍّ من المعرفة والإرادة منابع تكوينها وتنميتها وتكاملها. الأديانُ لها عباداتها وطقوسها ورياضاتها الروحية لبناء الإرادة وتجذيرها، وعلومُ النفس والاجتماع وعلمُالأعصاب لها تفسيراتها وأساليبها ووسائلها. تتفهم العلومُ بعضَرياضات الأديان وتحاول تفسيرها في كثيرٍ من هذه الحالات، وتفترق العلومُ في تفسيراتها ووسائلها بإيقاظ الإرادة وترسيخها،وتتعارض في حالات متنوعة مع تلك الرياضات..تتمة المقال في العدد المقبل.


تابعنا على
تصميم وتطوير