دعوني أحدثكم اليوم عن قصة النقل العام في بغداد والعراق والمصلحة أم قاطين التي لنا فيها ذكريات جميلة ورائعة.. لكننا اولا سنعود بالتاريخ إلى عام 1889، حين قرر الوالي العثماني مدحت باشا تأسيس شركة مساهمة لإنشاء سكة ترامواي بين بغداد والكاظمية. (مدحت باشا هذا، أينما تجولت في بغداد والعراق ستجد أثره، مع أنه لم يحكم سوى ثلاث سنوات فقط!)المهم أن الباشا أسس الشركة، وطرحت أسهمها في الأسواق، حيث بلغت قيمة السهم الواحد ليرتين عثمانيتين ونصف. سارع أثرياء بغداد وتجارها إلى شراء الأسهم بعد أن نشرت صحيفة “الزوراء” البغدادية الشهيرة مزايا المشروع والإقبال الكبير عليه.. تم إنشاء خط الترام الحديدي، وكان عبارة عن عربة بطابقين من الخشب تجرها الخيول، ممتدة من ساحة الشهداء في جانب الكرخ إلى الكاظمية وبالعكس. ويقال إن بعض النساء البغداديات حين رأين الترام للمرة الأولى أصابهن الذهول، وقلن بتعجب : “بس على الموت ما يگدرون!”، والحق اننا لو مشينا في اتجاه الترمواي والكاري وطورنا امكانات النقل العام لكان عندنا اليوم اكبر شبكة مترو وترام في المنطقة.. نعود لسرد التاريخ ففي بداية القرن العشرين، استورد عدد من الأثرياء عربات تسير على الأرض لا على السكك الحديدية، وسُميت “عرباين عارف آغا”. وأصبحت هناك خطوط نقل بين المدن القريبة من بغداد، مثل سامراء وكربلاء وبعقوبة والحلة، وكانت الرحلة الواحدة تستغرق يومًا كاملًا.أما الحافلات، فلم تعرفها بغداد إلا في ثلاثينيات القرن الماضي. وكانت حافلات خشبية مصنّعة محليًا، حيث استفادت الحكومة من آليات الجيش البريطاني بعد الحرب، فاشترتها، ثم عدلتها وأضافت إليها هياكل خشبية. بعد ذلك، استوردت الحكومة شاحنات فولفو السويدية وشفروليه الأمريكية، وحولتها إلى حافلات خشبية في البصرة والنجف، حتى اشتهرت لاحقًا سيارات النقل المعروفة بـ”دگ النجف”. ولو استمرت صناعة الحافلات في النجف حتى اليوم، لربما أصبحت مركزًا صناعيًا لصناعة السيارات والحافلات السياحية الحديثة.في عام 1938، تأسست “مصلحة نقل الركاب” وارتبطت بأمانة بغداد، ومنذ ذلك الوقت عرفها الناس باسم “الأمانة”. وفي عام 1940، حاولت المصلحة شراء 100 حافلة من بريطانيا، لكن بسبب الحرب العالمية الثانية، ألغيت الصفقة، وعادت المصلحة إلى الاعتماد على الحافلات الخشبية مرة أخرى.
بعد نهاية الحرب، وتحديدًا في عام 1946، وصلت إلى بغداد حافلات “كومر” الإنجليزية، ما ساعد على فتح خطوط جديدة، حتى بلغ عدد الحافلات الكلي في الشركة 150 حافلة تقريبًا، بين جديدة وقديمة ومتوقفة عن العمل.. لكنها مع ذلك، لم تكن كافية لتلبية احتياجات السكان المتزايدة. حتى أن بعض الشعراء الشعبيين عبروا عن ضيقهم في أبيات شعرية، منها:
تعبان اجيت من الشغل
وهدومي متروسة تراب
بالثورة بيتي ومسكني،
هم هاي تحتاج حساب؟
گلت شوية خلي انتظر
مصلحة نقل الركاب
مرت عليّ ساعة وجزت
والمصلحة هلال وغاب!
ساعة واجت تركض ركض
تگول لاحگها غراب
والحصل مچين گعد
والماحصل ظل بالباب
شوية اجه الجابي وصرخ
انزلوا المصلحة خربانه
ما بيها صطاب
بعدها بسنوات، في أواخر عام 1951، حصلت بغداد على مئة حافلة ذات طابق واحد. أما الحافلة الحمراء ذات الطابقين، فقد وصلت إلى بغداد في عام 1956، بعد توقيع عقد مع شركة “آيسي” البريطانية.
وفي عهد الرئيس عبد السلام عارف، استوردت الحكومة 70 حافلة مصرية من نوع “نصر”، لكنها فشلت فشلًا ذريعًا بسبب تدني مستواها الفني وحرارة بغداد اللاهبة .ثم في عام 1968، في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، تحسنت العلاقات مع المعسكر الاشتراكي، وساءت مع بريطانيا، فاتجهت الحكومة إلى استيراد حافلات من شركة “إيكاروس” المجرية، التي أطلق عليها العراقيون اسم “الأكورديون” لشبهها بآلة الأكورديون الموسيقية. دخلت الخدمة في عام 1971، لكنها لم تصمد طويلًا في أجواء العراق الحارة والزحمة الخانقة.وفي منتصف السبعينيات، عادت الحكومة إلى شركة “برتش لايلند” البريطانية، فزودت بغداد بـ200 حافلة ذات طابقين. كما تم استيراد حافلات “مان” الألمانية، وبقيت في الخدمة حتى نهاية الثمانينيات. ثم دخلت أنواع أخرى من الحافلات، منها الأردنية (البا) والهندية (التاتا) والصينية (الفاو)، لكنها لم تكن ناجحة لأسباب فنية مختلفة.
وفي عام 2003، بعد فوضى الاحتلال الأمريكي، تعرضت الشركة – كما تعرض البلد كله – للنهب والتخريب.
واليوم، تُعرف الشركة باسم “الشركة العامة لنقل المسافرين والوفود”، وتملك أسطولًا كبيرًا من السيارات والحافلات. وما زالت الحافلة الحمراء تظهر في بعض شوارع بغداد، لكنها – بيني وبينكم – خجلة، وتفتقد لنكهة الماضي، وعبق أيام زمان .