-4-
انطلقت بنا السيارة من الطائف إلى الشفا التي سبق أن مررنا بها ووجدناها المكان المناسب لتناول الغداء قبل أن نتوجه إلى الهدا. اخترنا أحد المطاعم الشعبية المفروشة بالبسط والوسائد العربية، وهذا معناه أن نتغدى جلوساً مع ما يسببه ذلك من معاناة لبعضنا. وحده زيد الحلي طالب بكرسي فدبروا له طبلة للجلوس، وتم جمع وسادتين معاً لتكونا منضدة للطعام!.
في بعض مناطق السعودية فإن اللحوم المفضلة هي لحوم التيوس “الماعز” التي لم نعتد عليها، ونفضل عليها لحوم الخرفان” الظأن” الدسمة الطرية، بل أن بعضنا ينفر منها ولا يتقبلها. استقبلنا صاحب المطعم بترحاب وبشاشة، وأرانا مأكولاته، ولما علمنا أن اللحوم لديه هي لحوم تيس فضلنا جميعاً أن نطلب الدجاج على الرز. وحده زيد الحلي أيضاً خالفنا وطلب لحم التيس المُتَّبل. وأثناء انهماكنا بالأكل جلوساً، كان الحلي جالساً على مقعده الوثير متظاهراً بأن لحم التيس اعجبه، وأخذ يوزع علينا قطعاً منه، لكننا كنا نأنف منها ولا نتقبلها، ونردها له بقطع من الدجاج، واكتشفنا لاحقاً ورطته مع لحم التيس الذي لم تتقبله معدته، لكنه كان يكابر طيلة وقت الغداء!. غادرنا الشفا باتجاه الهدا، فقد أصبح لنا فيها أصدقاء لابد من توديعهم وتناول استكانات الشاي مع اعتدال الطقس بعد مغيب الشمس وقبل أن نقفل راجعين إلى مكة في طريق ملتوٍ ينزل بنا من علو شاهق. وعلى الطريق صادفتنا مجتمعات من قرود البابون التي تبدو مسالمة وهي تستجيب لمداعبة المارة وتتوسل منهم الطعام، لكنها تبدو عدوانية إذا ما أُستفزت، وقد تقوم بإلقاء الحجارة على السيارات ومهاجمة الناس، ومنها ذلك القرد الذي قفز على الغطاء الامامي لسيارتنا وحاول مهاجمتنا من خلف الزجاج، ربما لأننا لم نلق له طعاماً، أو أنه قد سمع كلاماً أو إشارة لا تعجبه من الزميل هاشم الذي كان أقربنا إلى النافذة المطلة على مستعمرة القردة .
انحدرت بنا السيارة بسرعة تجاه مكة المكرمة مع اشتداد الظلام، كنا خمسة صحفيين في هذه الرحلة، لم يغب عن مجموعتنا سوى الزميل عبد الهادي مهودر الذي تسلم معنا التأشيرة وبطاقة السفر وحجز الفندق، لكنه اضطر في آخر لحظة للبقاء في بغداد بسبب التزاماته، ومنها مصادفة بدء مسؤوليته الصحفية في جريدة “ الزوراء” وحرصه على أداء واجبه بنفسه، لكنه كان يتابع مباشرة جميع تفاصيل رحلتنا. ومع اقترابنا من أنوار مكة بادر السائق الاثيوبي بتشغيل رائعة أم كلثوم “ القلب يعشق كل جميل” : “ مكة وفيها جبال النور. طلة على البيت المعمور. دخلنا باب السلام. غمر قلوبنا السلام “.. ليلاً كنا عند باب السلام، يغمر قلوبنا السلام ونحن نودع بيت الله. وفي اليوم التالي اتجه بنا الباص إلى المدينة المنورة، لنعود من مطارها إلى مدينة السلام.