كتب : محمد خليل كيطان
بغداد ونهر دجلة رفيقان منذ زمن طويل، وربما يعود تاريخيه ونشأته مع اخيه نهر الفرات الى ملايين السنين.
شهدت ضفتا دجلة والفرات حضارات ومدنا وامبراطوريات على مدى 7000 آلاف سنة، وكانا يمثلان شرياني الزراعة والصيد والحياة اضافة لكونهما حاجزاً امنياً دفاعياً.
قبل ايام العباسيين وفي عهدهم شهد جانبا الكرخ والرصافة انماطاً حياتية ثرة وصارت بغداد مدينة عالمية ومقصداً للتجار والعلماء والشعراء والطلاب وحتى المقامرين.
وكان لابد من ربط الكرخ والرصافة بجسور لديمومة الحياة وتفعيل نقل المؤن والبضائع.
لكن مثلما تعرفون فإن الجسور كان اغلبها من الخشب والحبال والدوب الطافية ، وعادة ما كان دجلة يغضب بين الحين والاخر ويفيض ليتمرد على تلك الجسور ويدمرها ، لا سيما ان اوقات فيضان دجلة والفرات غير معروفة ومحددة بموسم معين ، خلافا لما يحصل في نهر النيل فإن مواسم الفيضان هناك محسوبة سنوياً ويمكن تحديد اوقاتها بشكل او بآخر.
استمر الصراع بين الجسور ودجلة على مر التاريخ لحين الوصول الى العام 1937 ، إذ شرعت شركة هوليوي برذرز الانكليزية التي تأسست عام 1882 ببناء اول جسر من الخرسانة والحديد على نهر دجلة.
شاع الخبر بين اهالي بغداد الذين لم يستوعبوا فكرة بناء جسر ثابت يسهل حركة اهالي الرصافة والكرخ ويقضي على مشكلات انقطاع الجسور الخشبية الى الابد.
بقي الناس يتابعون اعمال تشييد الجسر يومياً لحين يوم 15 تموز 1939 الذي شهد اكتمال الاعمال لكنه لم يفتح عملياً امام العامة إلا بحلول عام 1940 وربما كان سبب تأجيل الافتتاح هو وفاة الملك غازي قبلها بشهور قليلة، اضافة الى ان شبح الحرب العالمية الثانية الذي كان يخيم على العالم آنذاك، والتي اشتعلت شراتها عام 1939 في عام اكتمال الجسر نفسه.
وعلى الرغم من الحرب والتوترات فرح البغداديون بجسرهم الوليد الذي بلغ طوله 215 متراً تقريبا وبعرض 15 مترا .
وكان يوجد في محله بالضبط جسر عائم قديم سمي بالجسر العتيق او جسر الگطعة وبدا انه اخذ تسميته هذه من كثرة انقطاعه وغلقه.
اطلق على الجسر الجديد في بادئ الامر جسر الملكة عالية ثم تغيير الى جسر المأمون .
وبعد وثبة كانون عام 1948 التي اندلعت ببغداد شهد خلالها الجسر تظاهرات عارمة ورافضة لمعاهدة بورتسموث بين بريطانيا وحكومة صالح جبر وسقط عدد من الشهداء فوق الجسر بعد ان فتح عناصر الشرطة النار على المتظاهرين وتغير اسم الجسر بعدها الى جسر الشهداء.
أما جسر الاحرار فله حكاية اخرى فعندما وصلت القوات البريطانية بقيادة الجنرال ستانلي مود الى بغداد في صباح يوم 11 آذار سنة 1917، كان الجسر الخشبي الوحيد في المدينة خرب ومعظم اجزائه تحت الماء ، لان القوات العثمانية كانت قد اخذت الجسر الاخر باتجاه محافظة ديالى لتعزيز نقل قواتها من اجل صد هجوم القوات البريطانية لكنها خسرت المعركة وانسحبت من بغداد كلها وصار الجسر الخشبي هباءً منثوراً.
وحالما وصلت القوات البريطانية الى بغداد
قامت القيادة العسكرية على الفور باستدعاء فريق الجسور الهندسي العسكري الذي فكك احد الجسور قرب سلمان باك وسحبه الى بغداد.. وبعد مدة ايقنوا ان هذا الجسر ضعيف ايضا وكثير الانقطاع ولا يتناسب مع ثقل الآلة العسكرية البريطانية.
فتقرر عام 1918 بناء جسر خشبي جديد بدلا من الجسر الجنوبي واطلق عليه اسم جسر الجنرال مود ، الذي كان قد مات بالكوليرا بعد تناوله كوبا من الحليب الملوث خلال حفل اقيم في مدرسة الألـيـانـس اليهودية ببغداد ودفن في مقبرة الانكليز بباب المعظم ووضع له تمثال في جانب الكرخ قريب من الساحة الموجود فيها تمثال الملك فيصل الاول حاليا .
جسر مود تم تصميمه لتحمل 15 طن من وزن المركبات العسكرية العابرة، وبلغ طوله (384 متر).
وكلف حينها 56,133 جنيه استرليني.. ورفضت دائرة الحاكم السياسي في بغداد دفع هذا المبلغ الكبير لدائرة النقل المائي العسكري ، مما دفعهم على فرض رسوم للعابرين المدنيين والبضائع لتغطية التكاليف( يعني عبرة الجسر صارت بفلوس) .
وكان الجسر مصمم لأن ينفتح يومياً من وسطه ليسمح بمرور السفن والمراكب التجارية.
وبقي جسر مود بالخدمة لمدة 20 عاما حتى ازيل عام 1939 حال الشروع ببناء جسر الملك فيصل الثاني الذي تغير اسمه الى جسر الاحرار بعد ثورة تموز 1958 وهو نسخة مشابهة لجسر الشهداء .
بقي ان نذكر ان هناك جسراً خشبياً اخر كان يتمتع بأهمية كبيرة هو الجسر الرابط بين مدينتي الكاظمية والاعظمية والذي تحول الى جسر حديدي عام 1957 عرف باسم جسر الائمة الذي افتتحه الملك فيصل الاول هو وجسر الملكة عالية ( الجمهورية حاليا ) في يوم واحد .