– 3 –
بالعودة إلى الخريطة التاريخية لرحلة المصطفى من مكة إلى الطائف، نجد أنه صلى الله عليه وآله وسلم سلك طريق مكة باتجاه مسجد الخَيْف وهو مسجد تاريخي بالقرب من منى، ثم المزدلفة، وبعدها مسجد نَمِرة في عرفات، وشداد، وكمرا، وهدا، وكلها مناطق جبلية وعرة، اجتازها قبل وصوله الطائف، حيث نقف الآن على اطراف البستان الذي لجأ إليه بعدما تعرض للملاحقة والأذى، وشُيد في المكان الذي وقف به أو قريباً منه، واتكأ وهو جالس فيه، مسجد الكوع . بدأ زملاء الرحلة يتفرقون هنا وهناك بين أطلال الحيطان، والأرض الترابية التي تكثر فيها الحجارة والحصى، وشجيرات الصبّار التي حفر البعض على أوراقها الضخمة أسمائهم أو تواريخ زياراتهم لهذا المكان، ووجدتُ هاشم حسن يغرق في تأملاته الروحانية وهو جالس قرب شجرة كأنه لا يريد أن يغادر المكان، ويقال أن الصّبار الذي ينتشر في المناطق الجبلية بالطائف، ليس من النباتات المحلية، إنما أُدخلت إلى المنطقة خلال حكم العثمانيين، أو بعدهم لأغراض متعددة منها حماية الأراضي الزراعية من التعرية بفعل الرياح، أو استخدامها كحاجز طبيعي لمنع دخول الحيوانات الى البساتين والمزارع، وغير ذلك من أغراض يدخل بعضها في مجال الطب الشعبي والفوائد العلاجية، لكن ذلك كله لم يكن يخطر في بال زميلنا هاشم حين اقتطع قبل أن ينهض، جزءاً صغيراً من ورقة صّبار على أمل أن ينبته ويتبرك بنموه في حديقته المنزلية ببغداد التي أصبحت شغله الشاغل حتى بات يجيد الترقيد والتطعيم والتكاثر، ويعرف لغة الورود والشجيرات، بعيداً عن لغة البشر وضجيج الحياة. ثم أجد زيد الحلي منشغلاً بتفحص بعض الأحجار الكبيرة مثل أي خبير في الآثار، متنقلاً في أرجاء المكان بدهشة وصمت لم يشأ أن يبارحه لولا تعليقات ستار سعدون التي تضطره للخروج من صمته بكلمات تعبر عن سروره وهو يتواجد في بقعة مشت عليها ذات يوم خطى مباركة. فيما كان محمد خليل يرسم رؤيته التلفزيونية وينفذها بالصوت والصورة بعد أن اكتسب خبرة طويلة في اعداد وتقديم برنامجه الناجح الذي تبثه فضائية الإخبارية العراقية، ومن حلقاته المهمة تلك التي أنجزها عن رحلته في طريق الحج البَّري ذهاباً واياباً متحملاً مشاق ومخاطر السفر مع عائلته، ليقدم أول وأحدث توثيق فيلمي مفصل عن ذلك الطريق.غادرنا المكان، ولم يغادرنا، وبقيت أعيننا تتابع تلاشيه من نافذة السيارة شيئاً فشيئاً حتى غاب عن الأنظار، لكنه بقي في القلوب مثل نقش روحي، والسائق الاثيوبي يتجه بنا إلى الشفا في طريق العودة إلى مكة المكرمة. وفي الشفا كانت لنا حكاية مع لحم التيس، وقرود البابون! .