رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
الأبنية المعرفية لتحليل ظاهرة العنف السياسي


المشاهدات 1184
تاريخ الإضافة 2025/03/10 - 10:49 PM
آخر تحديث 2025/03/21 - 6:46 AM

‏لا جرم من القول ان العنف السياسي، كظاهرة مركبة، يمثل تقاطعا بين أزمات متعددة المستويات. ومن خلال قراءات معمقة في أدبيات مختلفة، أقدم بعض النقاط الاستنتاجية ذات الطابع التخصصي:
‏1. تشير الدراسات المتخصصة إلى أن المجتمعات الأكثر حداثة وتطورا مؤسسيا هي الأكثر استقرارا سياسيا والأقل عرضة للعنف. وكما قال عالم الاجتماع ماكس فيبر: “التحديث هو الانتقال من البنى التقليدية إلى العقلانية المؤسسية.”
‏2. كلما توسع نطاق النمو الاقتصادي وتعززت البنى الإنتاجية، زادت فرص تحقيق الاستقرار السياسي، حيث تتوفر للفرد خيارات لتطوير حياته.  وفي دراسة للبنك الدولي أظهرت أن العنف السياسي في الدول ذات الدخل المنخفض يزيد بأكثر من 400% مقارنة بالدول ذات الدخل المرتفع.
‏3. الفقر لا يعد مجرد عائق للتنمية، بل يمثل سببا جوهريا ومستمرا لانعدام الاستقرار. يقول نيلسون مانديلا: “الفقر هو أسوأ أشكال العنف.”
‏4. في الدول النامية، يخلق التعليم رغبة متزايدة في المشاركة السياسية والتغيير الاجتماعي. ولكن إذا فشل النظام السياسي في تلبية هذه الطموحات، تتحول إلى قوة نقمة وتوتر. عالم السياسة صامويل هنتنغتون أوضح في كتابه “النظام السياسي في مجتمعات متغيرة” أن التعليم من دون تمكين اقتصادي وسياسي يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية متزايدة.
‏5. عجز النظام عن استيعاب مخرجات التعليم يؤدي إلى انتشار البطالة بين الفئات الأكثر وعيا، مما يولد بيئة خصبة للتطرف السياسي. وكما كتب بول كروجمان في “عودة اقتصاديات الكساد”: “البطالة ليست مجرد إحصائية اقتصادية، بل هي ديناميكيات اجتماعية متفجرة.”.
‏6.  عديد من الدراسات الإحصائية تبين أن العنف في المدن يفوق مستوياته في المناطق الريفية. ويمكن تفسير ذلك بزيادة معدلات التنافس الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي في البيئات الحضرية.
‏7. ان الأنماط القيمية التي تنشأ من خلال التنشئة الاجتماعية والدينية تسهم في تعزيز أو تقليص قبول العنف كأداة سياسية. وصدق جان جاك روسو في قوله ان  “المجتمعات تتشكل وفقا للقيم التي تغذيها.”.
‏8. العنف المؤطر دينيا أو أيديولوجيا يكون أكثر عمقا وأطول أمدا من العنف القائم على المصالح الفردية، فهذا النوع من العنف يستمد قوته من إيمان أتباعه بالمطلقات، مما يجعله مقاوما للحلول التقليدية.
‏9. ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في خلق فضاء خصب لانتشار الكراهية وتأجيج العنف. وكما قال زيجمونت باومان في “الحداثة السائلة”: “التكنولوجيا لم تصنع عالما أكثر تواصلا، بل عززت عزلة الأفراد في أطرهم الفكرية الضيقة.”
‏10. تمر الدول التي تتحول من أنظمة شمولية إلى الديمقراطية بفترات عدم استقرار سياسي، يعتمد طولها على التوازن بين المتغيرات الداخلية والضغوط الخارجية. ويشير الباحثان غييرمو اودونيل وفيليب شميتر في كتابهما “التحولات من الحكم السلطوي: خلاصات مؤقتة حول الديمقراطيات غير المؤكدة” الى ان المراحل الانتقالية من الانظمة السلطوية الى الديمقراطية غالبا ما تكون محفوفة بالمخاطر حيث يمكن ان تؤدي الى عدم استقرار سياسي واجتماعي اذا لم تدار بعناية. ويؤكدان ان نجاح هذه التحولات يعتمد على قدرة النخب السياسية على التفاوض والتوصل الى توافقات تضمن بناء مؤسسات ديمقراطية قوية ومستدامة.
‏11. التدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة تلعب دورا محوريا في تأجيج العنف السياسي، سواء عبر دعم أطراف بعينها أو تعميق الانقسامات المجتمعية. وفي هذا السياق يذكر نعوم تشومسكي أن “العنف غالبا ما يكون منتجا جانبيا للسياسات الخارجية.”
‏12. في الدول النامية، يزداد احتمال بروز العنف السياسي كلما تعمق التنوع المجتمعي، بسبب صعوبة بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الهويات الفرعية.
‏13. ان العنف السياسي في الأنظمة الملكية يكون أقل من نظيره في الأنظمة الجمهورية بسبب طبيعة البنى التقليدية التي تعزز الاستقرار الاجتماعي.
‏14. يتضح جليا ان العلاقة بين الفساد والعنف السياسي علاقة طردية؛ كلما ازداد الفساد، تعمقت فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، مما يجعل العنف وسيلة للتعبير عن السخط. الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي يقول: “الأزمة تنشأ عندما لا يستطيع القديم أن يموت ولا يستطيع الجديد أن يولد.”
‏في التحليل الأخير، تظل ظاهرة العنف السياسي واحدة من أعقد الظواهر الإنسانية التي تتطلب مقاربة متعددة التخصصات لتحليلها وفهم أبعادها. والنقاش مفتوح لإثراء الحوار.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير