محمد خليل كيطان
ما ان تغلق اسواق الشورجة البغدادية أبوابها يومياً بعد الساعة الرابعة عصراً حتى ينتشر عشرات الشباب لأداء مهمة الحراسة ومراقبة اوضاع الاسواق .
ولا تقتصر مهمتهم على الحماية فحسب بل انهم يتولون أبلاغ السلطات عن أية تحركات مريبة ويرقبون انظمة الحرائق وكاميرات المراقبة أيضا .
منذ أن وجد بني ادام على وجه الخليقة، كان وما زال هاجس الامن والامان شغلهم الشاغل . وفي أي مكان بالعالم من الطبيعي ان ينشط الحرامية واللصوص مع سيادة الفوضى والانفلات الأمني.
وكان الناس ايام زمان ووقت الازمات تحديداً ، يعتمدون على إمكاناتهم الذاتية، فيما لو ضعفت سلطة الدولة ، ويلجأ أهالي المحلات السكنية في المدن والارياف الى تكوين مجاميع من الحراس والنواطير الليليين بهدف حماية الأشخاص والممتلكات من عصابات اللصوص وقطاع الطرق وصغار الحرامية.
ومع كثرة تبدل وجه السلطة في بغداد والعراق على مر العصور لا سيما سنوات الصراع (العثماني - الصفوي)، إذ قيل أن بغداد كانت سنة بيد العثمانيين وسنة بيد الصوفيين بحسب ما ذكره المؤرخون وبينهم (سليمان فائق بك) في كتابه تاريخ بغداد، إذ قال ان حالها بقي كذلك حتى عام 1639 ومجئ السلطان العثماني مراد الرابع ليفتح بغداد ويزيح الصوفيين منها.
وكان مع أول تبدل للسلطة يهرع الناس والتجار واهل المصالح للمطالبة بتعيين حراس ليليين لحماية ممتلكاتهم ومتاجرهم .
وكان يطلق على الحارس الليلي (الچرخچي) وهي لفظة تركية تعني ( طليعة العسكر) والتسمية كانت شائعة في عهد الدولة العثمانية وما بعدها ،اذ يذكر العلامة حسين علي محفوظ ان لفظة ( چرخه جي ) تعني الحارس، واخرون يطلقون عليه (البصوان) وأصلها (الباسوانجي) .
والجرخجي أيضا تعني الدوار واتذكر كلمة (جرخ) التي كانت عبارة عن لعبة لدولاب دوار يلهو به الاطفال ، ويبدو ان هذه الكلمة اطلقت على الحارس الذي كان دائم الدوران في الازقة والدرابين .
وهناك تسميات أخرى للحارس منها (النوبجي) الذي يتناوب بين النوم واليقظة والوحاش الذي يمارس عمله ونشاطه وسط وحشة الليل المظلم.
وكان الحارس يرتدي ملابسه العادية ويضيف عليها القميص الخاكي صيفاً والسترة او المعطف (القبوط) شتاءً، إضافة الى اليشماغ والعكال الذي تعلوه علامة الشرطة .ولم تكن مهمة الحارس تقتصر على الحراسة فحسب بل كان يهرع الى مساعدة ابناء المحلة اثناء تعرضهم ليلاً الى الحوادث كالحريق او المرض والعوارض الاخرى.
ومن اهم شروط اختيار الحارس للعمل بهذه المهنة ان يكون حسن السيرة والسلوك ويتمتع بالصحة الجيدة والشجاعة والسمعة الطيبة ويمتلك الأوراق الثبوتبة الرسمية وغير خاضع للخدمة العسكرية، ويفضل من كان له سبق في خدمة الشرطة او الجيش ، مع وصايا للحفاظ على السلاح وعدم إنابة غيره بالحراسة. وكان راتب الجرخجي لا يتجاوز اكثر من دينار واحد وبضعة فلوس. وتناولت السينما العراقية مهنة الجرخجي من خلال فيلم (الحارس) الذي جسده الفنان مكي البدري الذي كان يشتغل بالنهار على عربانة نفط وبالليل حارس وجرخجي. وفي مقابل مهنة الحارس او الجرخجي بالمدن كانت هناك مهنة مشابهة لها هي مهنة الناطور في القرى والارياف التي قيل خطأً ان أصلها إنجليزي وجاءت من لفظة night tour وترجمها البعض التجوال ليلاً. ويؤكد المختصون ان كلمة ناطور عربية بحتة وتعني الناظر بعينه والساهر لحراسة الزرع والفواكه والغلات الاخرى من السراق .
ويستدلون بذلك الى قول ابو الطيب المتنبي عندما هجا حاكم مصر قبل أكثر من ألف سنة بقصيدته المشهورة التي يستهلها بالقول:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
لحين ان يقول :
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها
فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
ومع تطور واقع الحياة وتقنيات الامن والامان وانتشار كاميرات المراقبة عالية الدقة، والأجهزة الامنية وشيوع الدوريات وفرق السكيورتي والـ FBS في المدن والمولات والمراكز التجارية إلا ان الحارس او الناطور ما زال يتسيد ليلاً حتى اليوم الكثير من الاسواق الشعبية والمدارس وبعض الابنية الحكومية والاحياء السكنية، ولو أن هيئته قد تغيرت وتخلى عن (القبوط) والصفارة .