تعاني العديد من المصارف العراقية، سواء الحكومية منها أو الأهلية، من أزمة تعثر دفع الديون، والتي لا تقتصر على المقترضين فحسب، بل تمتد لتشمل الشركات وأصحاب المشاريع الكبرى الذين يجدون صعوبة في سداد مستحقاتهم المالية.
ونتيجة لهذه الأزمة المتفاقمة، اضطرت بعض المصارف، وعلى رأسها المصرف العراقي للتجارة، إلى اتخاذ إجراءات جديدة تهدف إلى إعادة جدولة الديون المتعثرة ورفع بعض القيود المفروضة على المقترضين، وفق آليات محددة.
في هذا التحقيق، نسلط الضوء على تفاصيل هذه الأزمة، وأبرز الحلول المطروحة من قبل المصارف، من خلال لقاءات حصرية مع شخصيات مصرفية بارزة.
وقال المستشار الإعلامي للمصرف العراقي للتجارة عقيل عواد الشويلي لـ »الزوراء»: ان المصرف العراقي للتجارة هو أحد المصارف الحكومية العراقية، تأسس بعد عام 2003، ويضطلع بالعديد من المهام، من بينها تنفيذ الحوالات المالية، فتح حسابات للشركات، وإدارة عمليات الإيداع. في عام 2024، تمكن المصرف من تنفيذ 55,176 حوالة تجارية وصناعية، إضافة إلى استقبال 940 حوالة واردة. كما بلغ إجمالي الأموال الممنوحة في العام نفسه 1.5 تريليون دينار عراقي، بينما بلغت التسديدات 1.3 تريليون دينار، أي ما يعادل 600 مليون دولار.
واضاف ان المصرف يحرص على مواكبة التطورات العالمية من خلال تدريب موظفيه باستمرار في دورات متخصصة، مع التركيز على توظيف أصحاب الخبرة المصرفية. كما أننا نعمل على تطوير التكنولوجيا المصرفية، حيث نوفر خدمات مثل الإيداع عبر ماكينات الصراف الآلي، مما يتيح للعملاء تنفيذ معاملاتهم بسهولة دون الحاجة إلى زيارة الفروع.
وحول مشكلة التعثر في استرداد القروض، اوضح انه بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد، تعرض العديد من أصحاب المشاريع لتعثر مالي حال دون تمكنهم من سداد مستحقاتهم في الوقت المحدد، بعضهم تأثر بتقلبات سعر الدولار أو بجائحة كورونا، مما أدى إلى صعوبة في استرداد الأموال. لذلك، اتخذ المصرف إجراءات جديدة لضمان استرداد القروض، ومنها اشتراط ضمانات عقارية قوية قبل منح القروض، مع ملاحقة المتعثرين قانونياً.
واشار الى ان القطاع المصرفي العراقي يواجه تحديات كبيرة بسبب أزمة تعثر القروض، ولكن المصارف، ومن بينها المصرف العراقي للتجارة، تعمل جاهدة على إيجاد حلول مبتكرة لضمان استرداد الأموال مع مراعاة أوضاع المقترضين من خلال خطط التسوية وإجراءات التحصيل القانوني، تسعى المصارف إلى تحقيق التوازن بين دعم المشاريع الاقتصادية وضمان الاستدامة المالية.
من جانبه، قال مدير المصرف العراقي للتجارة / فرع المسبح الدكتور موسى نزار في حديث لـ»الزوراء»: ان المصرف يعمل وفق آلية منظمة لضمان استرداد القروض. نحن لا نهدف إلى ملاحقة المقترضين قانونياً فقط، بل نحاول تقديم حلول تسوية عادلة تمكنهم من إعادة جدولة ديونهم. التسوية تهدف إلى حل النزاعات بين الطرفين، مع ضمان حقوق المصرف. على سبيل المثال، هناك بعض رجال الأعمال الذين يمتلكون أصولاً ذات قيمة عالية، وقد تم التوصل معهم إلى اتفاقيات تسوية تسمح لهم بمواصلة أعمالهم في مقابل سداد جزء من الديون المتراكمة.
وبين انه لا أستطيع تحديد رقم دقيق، ولكن المصرف تمكن في عام 2024 من استرداد أكثر من تريليون دينار عراقي، مع تسديدات بلغت 300 مليون دولار. هذه الجهود تساهم في تقليل الخسائر وتعزيز الاستقرار المالي للمصرف.
واكد ان التأخير في منح القروض يعود إلى عدة عوامل، منها ضرورة التحقق من الضمانات العقارية والتأكد من جدية المقترض في تنفيذ المشروع. كما أن المصرف يضع إجراءات صارمة لضمان عدم منح القروض للأفراد غير المؤهلين. هذه الإجراءات قد تستغرق بعض الوقت، لكنها تهدف في النهاية إلى حماية حقوق المصرف والعملاء على حد سواء.
واوضح ان المصارف العالمية تلعب دورًا حيويًا في استقرار النظام المالي، ولذلك تضع استراتيجيات وخططًا دقيقة لاسترداد أموالها من المقترضين لضمان استمرارية أعمالها وتقليل المخاطر المالية. تعتمد هذه الخطط على عدة محاور رئيسية تتنوع بين الحلول الوقائية والإجراءات القانونية والتنظيمية.
أولًا: تعتمد المصارف على استراتيجيات وقائية تقلل من احتمالية تعثر المقترضين، مثل تحليل الجدارة الائتمانية بشكل دقيق قبل منح القروض، وتطبيق معايير صارمة في منح التسهيلات المالية، واستخدام أنظمة تصنيف المخاطر لمتابعة أداء العملاء وتوقع المشكلات المالية المحتملة.
ثانيًا: تتبنى المصارف سياسات مرنة في إعادة جدولة الديون، حيث توفر للمقترضين إمكانية تعديل شروط السداد عند مواجهتهم لصعوبات مالية، مما يساعدهم على تفادي التخلف عن السداد ويمنح المصارف فرصة لاستعادة أموالها دون اللجوء إلى الإجراءات القانونية المكلفة.
ثالثًا: تستخدم المصارف التقنيات الحديثة في متابعة القروض، مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، للكشف المبكر عن المؤشرات التي قد تدل على احتمالية التعثر، مما يسمح باتخاذ إجراءات استباقية لتفادي الأزمات.
رابعًا: عند فشل الطرق السلمية، تلجأ المصارف إلى الإجراءات القانونية، مثل تحصيل الديون عبر المحاكم، أو فرض عقوبات على المقترضين غير الملتزمين، أو الاستحواذ على الأصول المقدمة كضمان للقروض.
خامسًا: تلجأ بعض المصارف إلى التعاون مع شركات تحصيل الديون المتخصصة، التي تمتلك خبرات في استرداد الأموال من المقترضين عبر أساليب قانونية وتقنية متقدمة.
ولهذا تعد استراتيجيات استرداد الأموال جزءًا أساسيًا من استدامة عمل المصارف العالمية، حيث تسهم في تقليل المخاطر المالية، وضمان استقرار القطاع المصرفي، ودعم النمو الاقتصادي من خلال تعزيز الثقة في الأنظمة المالية.
وتابع: أن المصرف أبوابه مفتوحة للجميع لذا ندعو جميع المتعاملين معنا وخاصة المقترضين مراجعة المصرف وتسهيل الأمور وربما نلجأ للتسوية ولحلول أخرى حفاظا على ديمومة العمل.
من جانبه، كشف الخبير الاقتصادي، صلاح نوري، عن أبرز أسباب ارتفاع الدين العام الداخلي في العراق.
وقال نوري في تصريح صحفي إن «الاعتماد على تمويل عجز الموازنة من خلال الدين الداخلي بدلاً من الخارجي يعد السبب الرئيسي لارتفاع الدين الداخلي»، موضحاً أن «هذا النهج يؤثر بشكل مباشر على السيولة النقدية للمصارف الحكومية وصندوق تقاعد موظفي الدولة».
وأضاف أن «الدين الداخلي، الذي يعتمد بشكل كبير على المصارف الحكومية وصندوق التقاعد، يؤدي إلى تقليل قدرة المصارف على الاستثمار في القطاع الخاص من خلال الإقراض للمشاريع التنموية، مما يضعف دورها في دعم الاقتصاد، كما أن هذا الوضع يضعف قدرة صندوق التقاعد على الوفاء بالتزاماته المالية».
وبحسب تصريح الخبير فإن «الدين الداخلي يمكن أن يكون إيجابيًا إذا تم توجيهه نحو دعم الإنتاج الزراعي والصناعي المحلي، حيث يسهم ذلك في تقليل الاستيرادات بالعملة الأجنبية (الدولار) وتعزيز الاقتصاد الوطني».
وفيما يتعلق بخفض التضخم، أكد نوري أن «هناك عدة أدوات يمكن استخدامها، أبرزها السيطرة على استقرار سعر صرف الدولار، وتنويع الإيرادات بعيدًا عن الاعتماد الكلي على النفط الذي يتسم بالتذبذب في الأسواق العالمية».
كما شدد على «أهمية تقليل الإنفاق العام في الموازنة، خاصة الإنفاق غير الضروري، لتحقيق استقرار اقتصادي مستدام».
وفي وقت سابق، حث المستشار المالي لرئيس الوزراء الدكتور مظهر محمد صالح على ضرورة اتباع سلسلة من الإجراءات لضمان عدم تعثر القروض المصرفيَّة الممنوحة للأشخاص والشركات الاستثماريَّة، واضعاً في مقدمة تلك الإجراءات تأسيس (شركات تحصيل الديون المتعثرة) فضلا عن وضع مخصصات تحوطية حول رأس المال بنسبة تحددها اللوائح الرقابية عن مخاطر التعثر وعدم السداد لأقساط الدين.
وجاءت تأكيدات المستشار المالي، رداً على مقترح الخبير الاقتصادي الدكتور علي هادي جودة، الذي دعا إلى تأسيس تلك الشركات.
وتعاني العديد من المصارف نتيجة تعثر سداد القروض التي تمنحها للمستفيدين، سواء كانوا أشخاصاً أو مشروعات استثمارية، الأمر الذي دفعها إلى فرض “قيود” قوبلت برفض العديد ممن يسعون إلى الحصول على تلك القروض، لاسيما ما يتعلق بالرهن العقاري والكفيل الضامن.
وقال صالح في تصريح صحفي: إنه “وبموجب اللوائح الرقابية المصرفية الدولية التي تعتمدها المصارف والنظم المصرفية في العالم، لاسيما اللوائح الصادرة عن بنك التسويات الدولية والتي يطلق عليها قواعد (بازل)، فإنه يتطلب من المصارف المقرضة وهي الجهة (الدائنة) المانحة أو التي تمنح الائتمانات للمقترضين بكونهم (مدينين) التحسب للتعثرات التي تواجه استرداد القروض نتيجة تعثر المدين عن دفع ما بذمته إلى المصرف، ما يعرِّض المصرف أو الصندوق المانح للقروض أو الائتمانات لخطر العسرة أو التعثر والإفلاس والتأثير في مركز حقوق الملكية المصرفية».
ويرى المستشار الحكومي ضرورة أن تتبع تلك المصارف عدداً من التحوطات بهدف التقليل من مشكلات تعثر سداد القروض وتدافع فيها عن مخاطر تعثر المدينين، بضمنها وضع مخصصات تحوطية حول رأس المال بنسبة تحددها اللوائح الرقابية عن مخاطر التعثر وعدم السداد لأقساط الدين أو الدين كله مع الفائدة، وذلك لتعويض الأموال المتعثرة غير المتحصلة، شريطة ألا يزيد التعثر على 5 % كحد أقصى من إجمالي الائتمان الممنوح ضمن التطبيقات المصرفية التي تقتضيها الرقابة المصرفية الوقائية بالغالب.
كما شدَّد صالح على أهمية “حجز ضمانات كافية لقاء منح القرض تتم تصفيتها تدريجياً عند عدم السداد لتعويض الخسارة الناجمة عن تعثر المدين في دفع ديونه المستحقة إلى المصرف ومنها الضمانات العقارية والأسهم والسندات والكُمبيالات والضمانات المقدمة من الكفلاء ومختلف الأصول الضامنة والمحجوزة لمصلحة المصرف المانح للائتمان أو القرض».
ونتيجة لاتساع مشكلات تعثر الديون، أوضح المستشار صالح أنه “يوجد في العالم اتجاه مكمل يقوم على مبدأ تأسيس (شركات تحصيل الديون المتعثرة) تقوم بالتحصيل ودفع جانب متفق عليه من الدين المتعثر نقداً إلى المصرف مقابل مبادلتها بالضمانات وتنتهي العلاقة مع المصرف الدائن”، مبيناً أنَّ هذا النوع من الشركات عادة ما تتولى تصفية الضمانات من أصول وموجودات عقارية أو غيرها التي هي بعهدة المدين، وهو أمر يجنب الجهاز المصرفي الخسائر الناجمة عن التعثر والتي تؤثر مباشرة في المركز المالي للمصرف وتقلل من معايير ونسب المخاطر الرقابية .
لذا فإنَّ تأسيس شركة تحصيل الديون المتعثرة هو الاتجاه المعمول به في الكثير من البلدان وهي نقل ضمانات الدين المتعثر إلى شركة تحصيل الديون التي تتولى تصفية أو تحصيل الضمانات المقدمة لقاء منح المصرف القرض إلى الدائن لمصلحتها بموجب القانون.
وجاءت تأييدات المستشار الحكومي في إنشاء شركة تحصيل الديون المتعثرة، رداً على مقترح الخبير الاقتصادي، وعضو مجلس تطوير القطاع الخاص الدكتور علي هادي جودة، الذي دعا الحكومة إلى تأسيس صندوق الديون المتعثرة تسهم الدولة في تمويل جزء من رأس ماله عبر المشاريع الاستثمارية والخدمية التابعة لها، والجزء الآخر يمول عبر استقطاع تأمينات من القروض التي تذهب لتمويل المشروعات أياً كان حجمها ومن ثم تزج هذه الأموال في استثمارات تعظيم حجم الصندوق.
وأشار هادي إلى أنَّ الصندوق المقترح تأسيسه، يمكن أن يسهم في تسديد التزامات الديون المتعثرة للمستثمرين وكذلك شركات القطاع العام المنفذة للأعمال ولمدد محددة بضمانة المشروع وبنسبة عائد بسيط، مؤكداً أنَّ هذا الصندوق سيرفع الثقل عن كاهل العديد من رجال الأعمال وسيؤسس لقاعدة التمويل الجريء بضمانة المشاريع القائمة ويعزز من مكاسب السوق ويخلق فرص عمل شريطة أن يؤسس بقانون مرن وإدارة متميزة.
وخلال عام 2024 كشفت دائرة الإحصاء والأبحاث في البنك المركزي العراقي، عن انخفاض نسبة القروض المتعثرة إلى إجمالي الائتمان.وقالت دائرة الإحصاء والأبحاث، إن نسبة القروض المتعثرة إلى إجمالي الائتمان النقدي شهدت انخفاضاً حيث وصلت نسبتها إلى (6.3%) خلال عام 2023، مقارنة في عام 2022 البالغة (7.2%)، بينما في عام 2021 سجلت (8.8%) أما في عام 2020 بلغت (8.9%)، وأضافت الدائرة، أن نسبة القروض المتعثرة إلى إجمالي الودائع لسنة 2023 سجلت نسبةً قدرها (3.2%) مقارنة مع الأعوام الثلاثة الأخيرة إذ سجلت في 2022 (3.4%)، بينما وصلت في عام 2021 الى (4.9%) بينما كانت (5.2%) في عام 2020.
ويؤكد البنك المركزي العراقي، على أن هذه النسبة تعد مؤشراً على كفاءة القطاع المصرفي العراقي في سعيه لتطوير منتجاته واتباع وسائل جديدة وأنظمة متطورة في منح الائتمان وتقليل مخاطر التعثر طبقاً للسياقات المتّبَعة عالمياً.