حوار ـ جمال الشرقي
في عالم الفنون التشكيلية، تبرز أسماء تألقت بإبداعاتها وأثرت المشهد الفني برؤى متميزة تحمل في طياتها تجارب فكرية وجمالية فريدة. ومن بين هذه الأسماء، تبرز الدكتورة جنان محمد الفنانة التي استطاعت أن تمزج بين الأكاديمية والممارسة الفنية، لتقدم لنا أعمالًا تتجاوز حدود اللوحة لتصبح تجارب بصرية وثقافية عميقة. الفنانة التشكيلية البصرية جنان محمد لم يكن دخولها إلى معهد الفنون الجميلة سوى خطوة أولى نحو مسيرة زاخرة بالإنجازات، حيث واصلت دراستها حتى نالت شهادة الدكتوراه في فلسفة الفن، مما أضاف إلى تجربتها الفنية بعدًا معرفيًا جديدًا، انعكس على أسلوبها في التعبير والتكوين.
في هذا الحوار، تأخذنا الدكتورة جنان في جولة عبر محطات حياتها الفنية، نتعرف من خلالها على تطورات أعمالها، وتأثير دراستها الأكاديمية على تجربتها، ورؤيتها لدور الفن في توثيق الهوية الثقافية. كما تتحدث عن معارضها الشخصية والجماعية، وعلاقتها بالمكان والذاكرة، فضلاً عن رؤيتها لمستقبل الفن التشكيلي في العراق، والتحديات التي يواجهها الفنانون اليوم. إذاً دعونا نقترب أكثر من عوالم الدكتورة جنان، ونكتشف كيف استطاعت أن تحول شغفها بالفن إلى مسيرة حافلة بالإبداع والابتكار.
* كيف يتحول الشغف إلى مصير ؟
- تجيب الفنانة جنان: بدايات الفنان لا تختلف كثيرًا عن بدايات أي طفل يعبث بالألوان ويكتشف سحر الرسم كهواية. لكن بعض الأطفال يمتلكون حسًا فنيًا يدفعهم إلى التمسك بهذا الشغف وتحويله إلى مسيرة حياة. هكذا كانت بداياتي مع الفن، حيث كان للبيئة العائلية دور مهم في تشجيعي على الاستمرار في الرسم، حتى تحولت الألوان من مجرد أدوات لهو إلى وسيلة للتعبير واكتشاف العالم. وجاءت دراستي في معهد الفنون الجميلة لتكون الانطلاقة الحقيقية في درب التعلم والتعمق في جوهر الفن.
* فلسفة الفن تؤكد ان الاحتراف نافذة نحو آفاق أوسع ؟
- نعم الحصول على شهادة الدكتوراه في فلسفة الفن لم يكن مجرد تحصيل أكاديمي، بل كان نقطة تحول جوهرية في فهمي للفن وممارسته. ودراسة الفلسفة عززت من قدرتي على تحليل البنى المفاهيمية للفن، وأثرت على رؤيتي لطريقة الهدم والبناء داخل العمل الفني. من خلال دراستي لمصطلح «الإبستيمولوجيا المعاصرة» – الذي يعني نقد المعرفة العلمية – استطعت توظيفه لفهم نظم البناء في فنون ما بعد الحداثة، مما انعكس بشكل مباشر على أسلوبي الفني، حيث أصبحتُ أكثر وعيًا بتأثير الذاكرة والخبرة في تشكيل العمل الفني.
* طيب هل التدريس في كلية الفنون الجميلة أكثر من مجرد وظيفة ؟
-لم يكن التدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة البصرة مجرد مهنة، بل كان شغفًا يمارَس بحب ومتعة. وجدتُ نفسي أمام طلبة متعطشين للمعرفة، يملكون حماسًا ورغبة في تطوير مهاراتهم، رغم الظروف الصعبة. واليوم، أرى كثيرًا منهم قد أصبحوا رموزًا بارزة في الساحة التشكيلية العراقية، يساهمون في نشر الوعي الجمالي وتعزيز دور الفن في بناء مجتمع أكثر تحضرًا، وهو أمر يدعو للفخر والتفاؤل.
* المعارض الشخصية: مراحل من التطور الفني ؟
- منذ معرضي الأول عام 1987، كنت أحرص على أن يكون لكل معرض نكهته الخاصة، بحيث يعكس مرحلة جديدة من الوعي الفني والتقني. فلا يمكن أن يتوقف الفنان عند حد معين، بل عليه أن يطور أساليبه، يكتشف تقنيات جديدة، ويبحث عن رؤى مبتكرة، حتى وإن احتفظ بالموضوع ذاته. فالفن هو انعكاس لمسيرة فكرية وتجريبية متواصلة.
* وماذا تمثل المشاركات الجماعية ؟
- المعارض الجماعية ليست مجرد منصات للعرض، بل هي فسحات للتفاعل بين الفنانين، حيث تتلاقح الأفكار وتتنوع الأساليب. قد تمنح الفنان فرصة لإثبات قدراته أمام زملائه، لكنها لا تشكل تأثيرًا مباشرًا على تجربته الإبداعية، التي تبقى عملية فردية نابعة من مخزون التجربة والخيال.
* المكان لدى الفنان: هل تعدينه الذاكرة التي تسكن اللوحة ؟
- لطالما كان المكان عنصرًا أساسيًا في أعمالي، فهو الفضاء الذي يحتضن التفاصيل والأحداث والذكريات. عندما أرسم أماكن محددة، فأنا لا أستنسخها، بل أعيد تشكيلها وفق رؤية فنية تستمد عناصرها من الذاكرة والتخيّل، مما يمنحها بعدًا حيويًا متجددًا.
* حدثينا عن المرأة والمكان: في تجربة «هن» في النحت والخزف؟
- في معرض «هن»، أردتُ أن أكسر حاجز اللوحة المسطحة وأحول النساء في أعمالي إلى منحوتات خزفية تنبض بالحياة. كان الهدف تحرير الشخصيات النسائية من البعدين إلى فضاء ثلاثي الأبعاد يتيح رؤيتها من جميع الزوايا، مما منح الأعمال طابعًا سينوغرافيًا تفاعليًا داخل بيت الشناشيل، الذي احتضن هذه التجربة بروحه التراثية.
* وماذا عن تقنية الكولاج: هل كانت أرشفة الزمن في بيوت الشناشيل ؟
- رسمتُ الشناشيل بتقنيات متعددة، لكن الكولاج أضاف بعدًا جديدًا، حيث استخدمت أوراق الصحف والمجلات القديمة، مع معالجات لونية أخرى، كوسيلة لتعزيز الإحساس بالزمن والذاكرة الجماعية. لم يكن الأمر مجرد تجريب تقني، بل محاولة لاستخلاص الطبقات الزمنية وإعادة تشكيلها، مستوحية ذلك من فكرة الأركيولوجيا، حيث يُنظر إلى العمل الفني كوثيقة تحمل في طياتها شواهد زمنية متعددة.
* ورش العمل ماذا مثلت لك ؟
- المشاركة في الورش الفنية لا تعني بالضرورة تطوير المهارات، لكنها توفر فرصة للالتقاء بفنانين آخرين، والانخراط في حوارات ثرية حول التجارب والأساليب المختلفة، مما يثري الرؤية الفنية.
* الذاكرة الثقافية: بوصلة الإبداع بالنسبة للفنان ؟
- ذاكرتنا الثقافية تحمل إرثًا من الحكايات، المباني، والأشياء التي تشكل هويتنا. في أعمالي، أسعى لاستجواب هذه الذاكرة، سواء كانت فردية أو جماعية، وإعادة صياغتها داخل اللوحة كجزء من أرشيف بصري يربط الماضي بالحاضر.
* الفن والتوثيق: مسؤولية الفنان تجاه التراث اليس كذلك ؟
- الهوية والتراث عنصران أساسيان في الممارسة الفنية، لكن المهم هو تقديمهما في إطار حداثي يتجاوز الاستنساخ الفوتوغرافي إلى معالجة جمالية تنطلق من فهم عميق لدور الفن في تأصيل الهوية الثقافية.
* حدثينا عن واقع الفنون التشكيلية في العراق؟
- رغم الزخم الإبداعي الذي تشهده الساحة التشكيلية العراقية، إلا أن هناك تحديات تعيق تطورها، أهمها نقص الدعم الحكومي وغياب المؤسسات الراعية للفن. ومع ذلك، يواصل الفنانون البحث عن سبل جديدة لإثراء المشهد الفني والتفاعل مع جمهورهم.
* نصيحة للفنانين الشباب ؟
- الفن ليس مجرد مهارة نسخ، بل هو رحلة اكتشاف مستمرة. على الفنان الشاب أن يطور خياله، يجرب مواد وتقنيات مختلفة، ولا يقع في فخ التقليد، بل يسعى لإيجاد صوته الخاص.
* عطاؤكم لا ينضب فلنعرج على المشاريع المستقبلية؟
- لا يمكن للفنان الحقيقي أن يتوقف عن الإنتاج. لديّ خطط لمعارض جديدة في الرسم والخزف النحتي، وأسعى دائمًا لاكتشاف تقنيات وأساليب مختلفة تضيف بعدًا جديدًا إلى أعمالي.
* تأثير الفن: هل يصبح أداة للتغيير؟
- الفن ليس مجرد زينة للجدران، بل هو وسيلة للتغيير الثقافي والاجتماعي، وهو أمر لا يزال يحتاج إلى وعي أعمق في مجتمعاتنا. فالفن قادر على ترسيخ الهوية، وتعزيز الوعي، بل وحتى دعم الاقتصاد، إذا ما تم استثماره بالشكل الصحيح.