رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
العراق وسوريا بعد الأسد: التحديات الأمنية والتحولات الجيوسياسية


المشاهدات 1496
تاريخ الإضافة 2025/02/12 - 8:17 PM
آخر تحديث 2025/02/22 - 9:42 PM

 
يشكل سقوط نظام البعث السوري بقيادة بشار الأسد تحديًا أمنيًا كبيرًا للعراق والمنطقة، نظرًا لاحتمال عودة الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية. التنظيم، الذي برع سابقًا في استغلال الفوضى الإقليمية لتحقيق طموحاته، لا يزال قادرًا على استغلال الفجوات الأمنية بين العراق وسوريا. في الوقت نفسه، يضيف صعود هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (الجولاني) بعدًا جديدًا للمشهد الأمني، حيث تمر الهيئة بتحولات أيديولوجية من الجهاد العالمي إلى “الجهاد المحلي”، مما يثير تساؤلات حول كيفية التعامل معها.
رغم أن هيئة تحرير الشام انفصلت عن تنظيم الدولة والقاعدة، لا يزال الموقف العراقي مرهونًا بقراءة تاريخية للهيئة كجزء من التنظيمات الجهادية العابرة للحدود. هذا التفسير القاصر يتجاهل التحولات البراغماتية التي طرأت على قيادة الجولاني، والتي تهدف الآن إلى بناء استقرار محلي والانخراط مع النظام الدولي برؤية أقرب إلى المدنية من التصورات التقليدية للجهادية.
كان ينبغي على العراق استباق التحولات السورية بفتح قنوات تواصل مباشرة مع الإدارة الجديدة فور انهيار النظام السابق، ما كان سيمكن بغداد من مناقشة ملفات أمنية حيوية، مثل مكافحة الإرهاب وضبط الحدود. ورغم التأخر، تبقى الفرصة متاحة لبناء شراكة أمنية واقتصادية مع القيادة الجديدة في دمشق، خصوصًا بعد دعوة وزير الخارجية السوري إلى التعاون في هذا الإطار وزيارته المرتقبة الى بغداد بالإضافة الى تصريحات الشرع الأخيرة التي أكد فيها عدم رغبته في الانخراط في الصراعات الطائفية أو العرقية. 
وتتمثل أبرز التهديدات الأمنية التي قد تطرأ نتيجة الفوضى في سوريا بعودة تنظيم الدولة، الذي لا يزال يتحصن في البادية السورية، ويراقب المشهد عن كثب، مكتفيًا بإصدار بيانات تنتقد منهج هيئة تحرير الشام وسياسة الجولاني. في مقابلات مع جهاديين سابقين انشقوا عن الهيئة، أشاروا إلى أن تنظيم الدولة يكتفي حاليًا بمراقبة الأحداث في سوريا، مستفيدًا من الخبرة التي اكتسبها خلال هزيمته في العراق عام 2011. هذا الموقف يشير إلى استعداد التنظيم لاستغلال أي ثغرة أمنية أو فوضى لإعادة بناء قوته.
على الرغم من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية لتعزيز الأمن على الحدود مع سوريا، بما في ذلك نصب الحواجز الكونكريتية والكاميرات الحرارية، فإن تلك الجهود لم تحقق نتائج حاسمة بعد. وفق تقارير محلية، تمكّن عناصر من تنظيم الدولة من التسلل إلى العراق بعد سقوط الأسد عبر محافظة الحسكة، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. استغل التنظيم شبكات التهريب والمضافات الحدودية، مما يؤكد وجود ثغرات أمنية تحتاج إلى معالجة عاجلة. في ظل هذه الظروف، ربما من الأفضل لصناع القرار في العراق التخلي عن الحسابات السياسية الضيقة، والتحلي بالواقعية والمرونة في التعامل مع القيادة الجديدة في دمشق. وهذا بالطبع يكون مرهونًا برغبة الجانب السوري بإقامة علاقات متوازنة مبنية على الاحترام المتبادل والرغبة في تجاوز ترسبات الخلافات السياسية العراقية-السورية خلال العقود الماضية. ان بناء علاقات متوازنة وشاملة، تتجاوز القضايا الأمنية لتشمل التعاون الاقتصادي والسياسي، هو السبيل الأمثل لضمان حماية الأمن الوطني العراقي وتعزيز استقرار المنطقة. يتطلب ذلك الانفصال عن ضغوط الصراعات الإقليمية والتحزب، والتركيز على مصلحة العراق العليا بما يخدم مستقبله في ظل بيئة إقليمية شديدة التعقيد.
التواصل الدبلوماسي مع السلطات السورية الجديدة: يؤكد الاتصال الرسمي الأخير بين العراق والإدارة السورية الجديدة على ضرورة تبني رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء علاقات دبلوماسية متينة تعالج القضايا الأمنية المشتركة وتدعم الاستقرار الإقليمي. تأتي هذه الخطوة وزير الخارجية السوري المرتقبة الى بغداد كفرصة لإعادة صياغة العلاقات بين البلدين على أسس جديدة، تتجاوز التوترات التي سادت في الماضي خلال فترة حكم عائلة الأسد، وتستند إلى المصالح المشتركة ومبادئ حسن الجوار. ينبغي أن يحرص كل من العراق وسوريا على عدم العودة إلى سياسات الخلاف أو التصعيد، مع التركيز على دعم جهود الاستقرار في المنطقة. تحقيق ذلك يتطلب موقفًا عراقيًا مستقلًا عن الضغوط الخارجية، بما يضمن وحدة القرار العراقي ويحرره من التبعية لأي مشروع إقليمي أو دولي، لا سيما المشروعين الإيراني والأمريكي. بالمقابل، ينبغي على الحكومة السورية ان تحرص على فتح صفحة جديدة مع العراق مبنية على أساس احترام سيادة العراق وتسعى لتعزيز التعاون بما يخدم مصالح البلدين. في هذا السياق، يمكن للعراق أن يلعب دورًا محوريًا في تعزيز الأمن والسلام في سوريا والمنطقة من خلال صياغة تفاهمات مشتركة مع القيادة السورية الجديدة. يشمل ذلك التعاون في ملفات مكافحة الإرهاب، ضبط الحدود، وتطوير شراكات اقتصادية وأمنية طويلة الأمد. إن بناء هذه العلاقات المتوازنة سيعزز من موقع العراق كفاعل إقليمي يسهم في استقرار المنطقة، ويحقق مصالحه الوطنية في الوقت ذاته.
تأثير التحولات على العلاقات العراقية-التركية: لعبت تركيا دورًا محوريًا وفاعلًا في الصراع السوري، خاصةً عبر دعمها لفصائل المعارضة المسلحة التي تمكنت أخيرًا من إسقاط نظام البعث السوري. يعكس هذا الدور مصالح أنقرة الأمنية والإستراتيجية، لكنه في الوقت نفسه يفرض تحديات على علاقاتها مع العراق، لا سيما في ظل الروابط القوية بين بغداد وبعض الفصائل الشيعية التي قاتلت إلى جانب نظام الأسد السابق، والتي تحظى بدعم إيراني يمثل الطرف المقابل في معادلة النزاع.
تتميز العلاقات العراقية-التركية بتشابك عميق في المصالح والقضايا الحساسة، مثل ملف المياه، والنفط، ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى وجود حزب العمال الكردستاني (PKK) في شمال العراق. ومع استمرار تركيا في دعم المعارضة السورية، قد تتفاقم التوترات في العلاقات مع العراق، الذي يسعى بدوره إلى تحقيق توازن حذر في علاقاته مع مختلف الأطراف المنخرطة في الصراع السوري.
ينبغي أن تتبنى بغداد سياسة خارجية متوازنة ومرنة تركز على حماية مصالحها الوطنية وضمان استقرارها الداخلي، مع العمل على تعزيز التنسيق مع أنقرة في القضايا المشتركة التي تسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي. وفي الوقت ذاته، يجب أن يحافظ العراق على استقلالية قراراته خصوصًا في ظل الحاجة الملحة لتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين. إستراتيجيات مكافحة الإرهاب: يشكل تغيير النظام في سوريا تحديات وفرصًا كبيرة لجهود العراق في مكافحة الإرهاب. تبرز سيطرة أحمد الشرع على الحكم في سوريا بعد تغيير النظام كفرصة حقيقية للحد من أخطار عودة تنظيم الدولة والجماعات الجهادية المتطرفة. يمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز التنسيق بين العراق والقيادة السورية الجديدة في جهود مكافحة الإرهاب، خاصة أن الجولاني يمتلك سجلًا حافلًا بمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية وفروع تنظيم القاعدة في سوريا. نجح الجولاني، بالتعاون مع أبو ماريا القحطاني، في تطوير جهود مكافحة الإرهاب، وتفكيك خلايا تنظيم الدولة وملاحقتها، والمساهمة غير المباشرة في استهداف قادة التنظيم، بمن فيهم أبو بكر البغدادي. لم تقتصر جهود الجولاني على تنظيم الدولة، بل شملت أيضًا مواجهة تنظيم القاعدة وفرعه السوري “حراس الدين”، والجهاديين الشيشانيين، وفصائل أخرى. وقد أكد وزير الخارجية التركي ومدير المخابرات السابق هاكان فيدان الدور المحوري الذي لعبته هيئة تحرير الشام في ملاحقة قادة تنظيم الدولة والقاعدة على مدى أكثر من عقد، مما عزز من مصداقية الادعاءات التي أطلقها تنظيم الدولة ضد الهيئة والجولاني، وزاد من احتمالية استهدافه من قبل التنظيم ومناصريه.
على الرغم من ذلك، لم تتمكن حكومة دمشق الجديدة بعد من فرض سيطرتها الكاملة على البادية السورية، التي تشكل قاعدة تمركز تنظيم الدولة، ولا على مناطق شرق الفرات الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). لذلك، يتعين على العراق دعم جهود مكافحة الإرهاب في البادية السورية، والعمل كوسيط بين قسد والقيادة السورية الجديدة للتوصل إلى صيغة توافقية تحد من نفوذ تنظيم الدولة، وتحمي الأمن الوطني العراقي. كما يجب على الحكومة العراقية ضمان استمرار برنامج التأهيل الذي تنفذه في مخيم الهول، مع توفير طاقة استيعابية مناسبة ومنهجية واضحة في مخيمات إعادة التأهيل مثل الجدعة، بالإضافة إلى تعزيز السيطرة على السجون التي تضم أعدادًا كبيرة من مقاتلي تنظيم الدولة وقيادييه. ويمكن تحقيق ذلك عبر إنشاء وحدات مشتركة لحماية السجون والمخيمات في شرق سوريا.
يقف أحمد الشرع اليوم على أرضية غير مستقرة بين تحديات الفصائل المسلحة وضغوط التيار الجهادي من جهة، وضغوط المجتمع الدولي والأزمة الاقتصادية من جهة أخرى. قد يؤدي ذلك إلى تصاعد الاقتتال الداخلي والفوضى، وهو السيناريو الذي يسعى تنظيم الدولة لاستغلاله. لذا، يصبح دعم الاستقرار في سوريا، وتمكين القادة الجدد، وتعزيز لغة الدولة في مقابل الفصائل المسلحة أمرًا بالغ الأهمية.
على صعيد الجهود العملياتية داخل العراق، تبقى كثافة عمليات الإغارة التي تنفذها القوات العراقية على تمركزات تنظيم الدولة أداة فعالة. ورغم أن هذه العمليات قد لا تقضي بشكل كامل على خلايا التنظيم، فإنها تضطر تلك الخلايا إلى التحرك المستمر، مما يصعّب عليها تنفيذ عمليات إرهابية كبيرة في الوقت الحالي.
تعزيز هذه الجهود من خلال شراكات إقليمية ودولية، مع التركيز على استراتيجيات طويلة الأمد، سيسهم في إضعاف التنظيمات الإرهابية وحماية الأمن الوطني العراقي.
ديناميكيات القوى الإقليمية والتحالفات: يؤثر التحول في المشهد السياسي السوري على التحالفات الإقليمية، بما في ذلك محور المقاومة المكون من إيران وسوريا وحزب الله. يجب على العراق إعادة تقييم موقعه داخل هذه الديناميكيات لحماية مصالحه الوطنية.
تمكنت احداث السابع من أكتوبر من وضع قواعد اشتباك جديدة في الشرق الأوسط بين النفوذ الإيراني والإسرائيلي وتمكن الإسرائيليين من تسديد ضربات مؤثرة للمشروع الإيراني في المنطقة والممثل “بمحور المقاومة”. تعد سوريا النظام الوحيد الصريح في محور المقاومة الإيراني مما يجعل بالضرورة من سقوط النظام السوري خسارة فادحة للشريك الجيوستراتيجي الأبرز في المحور وحلقة الوصل والإمداد بين جبهات المحور المتعددة وصولاً للشريك الأبرز “حزب الله” في لبنان. بعد الضربات العسكرية المؤثرة التي تلقاها حزب الله في لبنان ومحاولات إقصاءه عبر المعادلات السياسية وسقوط بشار الأسد الذي مثل نهاية للنفوذ الإيراني في سوريا. يمكن للعراق إعادة تقييم تموضعه في المشهد الجديد في الشرق الأوسط لحماية مصالحه الوطنية والسيطرة على جماعات ما دون الدولة العراقية التي تنتسب للمحور الإيراني وتذويبها تقديماً للمصلحة الوطنية. لقد حاولت الحكومة العراقية قدر الإمكان تجنب إدخال العراق في الصراعات التي يقودها المحور بما فيها الدفع الأخير نحو التدخل في سوريا، ولكن ذلك لم يعد كافياً لا سيما مع التقديرات حول الإدارة الأميركية القادمة عبر التكلفة السياسية والاقتصادية على العراق إذا لم ينفصل عن المشروع الإيراني. تشكل التحولات في سوريا لحظة محورية للعراق لإعادة صياغة علاقاته مع جيرانه بناءً على المصالح المشتركة. عبر تعزيز التعاون الأمني والدبلوماسي، وتبني سياسة مستقلة عن الضغوط الإقليمية، يمكن لبغداد أن تلعب دورًا فاعلًا في بناء شرق أوسط أكثر استقرارًا وأمنًا.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير