ولد الفنان المسرحي الرائد طه سالم في مدينة الناصرية، وظهر عليه نبوغ الفن واهتماماته المسرحية حينما انتقل إلى بغداد، وحصراً عند دخوله معهد الفنون الجميلة لكي يحصل على شهادة الدبلوم العالي عام ١٩٥٧- ١٩٥٨في الفنون المسرحية، وهي أعلى مؤهل في زمانه، فضلاً عن تجسيد مواهبه الفنية التي بدأها أصلاً في أيام التلمذة.
وتعد أيام “معهد الفنون الجميلة” ثمرة اهتماماته في هذا التخصيص، حيث تأثر بالكاتب العربي (توفيق الحكيم)، لاسيما مسرحية (أهل الكهف).
أخته “وداد سالم”؛ رائدة فن التمثيل النسائي، وابنتاه “شذى” و” سهى” وابنه “فائز”، كلهم شكلوا ظاهرة مميزة في الحركة الفنية العراقية، إلى جانب ابنه الراحل الشاعر والممثل “عادل”. وكذلك “سالم” و” سامر”.
كان دخوله للمعهد يمثل له العصر الذهبي الذي يشكل الزمن الحاضر والمستقبل بالنسبة إلى شخصية الرائد الكبير طه سالم المسرحية كانت خلال دراسته في المعهد وهو ينتهل من أستاذه مؤسس المسرح العراقي حقي الشبلي الذي أخذ منه الكثير من معارف العلم وأدبيات المسرح أو أنه «أكمل دراسته في المعهد وهو ينهل من معلمه الشبلي الخلق والمعرفة المسرحية ومواجهة قساوة الحياة» التي عاشها والتي اضطر في بعض الأحيان الجمع بين الدراسة والعمل، فاشتغل عامل بناء وحداداً وعامل حفر آبار ارتوازية في شمال العراق.
وتعد أيام معهد الفنون الجميلة ثمرة اهتماماته في هذا التخصيص، ثم عمل لسنوات بعد تخرجه مشرفاً فنياً للنشاط المدرسي في تربية الرصافة، مؤلفا عدداً من التمثيليات والمسلسلات، وشارك في أعمال فرقة (اتحاد الفنانين) وفرقة (نجوم المسرح) مع سعدون العبيدي وخليل شوقي وفاضل القزاز ومحسن العزاوي ،حتى ثورة ١٤ تموز 1958 ، حيث انضم الى فرقة المسرح الحديث.
طه سالم كان ظاهرة في النص المسرحي العراقي فقد بدأ اولا في مرحلة الواقعية الاجتماعية، تلك التي تقوم على المؤلفات التحريضية، والكاشفة لعيوب الواقع ومفاسده بالتجربة والممارسة، تبلورت لديه صيغ الكتابة شكلاً ومضموناً فطرق الرمزية، والتعبيرية، وحتى السريالية. كما اشار لذلك أكثر من ناقد مسرحي، ثم كتبت مسرحية «نجمة أم ذويل»، وكان فيها الكثير من الإرهاصات والإسقاطات على الواقع …
وفي عام ١٩٦٧ كان أول ظهور له ككاتب مسرحي وذلك مع فرقة “اتحاد الفنانين” للتمثيل، حيث كتب وأثناء دراسته في المعهد خلال الخمسينيات أول نص بعنوان (البطل) الذي أدى فيه دور البطولة، وآخر نص كتبه كان في عام ١٩٨٤ مسرحية (المزمار السحري)، والتي قدمتها الفرقة القومية للتمثيل على “مسرح الرشيد” وأخرجها “فخري العقيدي”. على أن “طه سالم” عاصر كبار الفنانين العراقيين؛ مثل “يوسف العاني” و” عادل كاظم”، والذين عرفوا بأساليبهم الخاصة، حيث تميزت مسرحياتهم بمواضيعها المستجدة التي تختلف عن مواضيع سوابقها من المسرحيات خصوصاً في طروحاتها عن وجود الإنسان ومصيره في هذا العالم بشكل وأسلوب يقترب كثيراً من الأشكال والأساليب الحديثة، فيوسف العاني” كتب (المفتاح) و(الخرابة) و” عادل كاظم” كتب (الطوفان) و(تموز يقرع الناقوس)، فيما تميز “طه سالم” بالتفرد بأسلوبه الطليعي الذي وصف في بدايته بالتطرف، كما ظهر في (فوانيس وطنطل ) التي أدهشت الكثير من الدارسين والمتفرجين بذلك الأسلوب الغريب الذي كتبت به ودار نقاش قوي وطويل حول طبيعتها وحول ملاءمتها لذائقة العراقيين، وقد اكد بعض النقاد أن المسرحية تنتمي إلى “مسرح اللامعقول”، حيث اتصفت بالعديد من صفات المسرح الطليعي، وليؤكد تأثره بمسرح اللامعقول عندما كتب مسرحية أخرى هي (ورد جهنمي)، والتي تناولت موضوعا مشابها لموضوعه (طنطل) ألا وهو وجود شيطان أو شرير في المدينة يجب الخلاص منه، ثم كتب مسرحية «ما معقولة» والتي أخرجها “سامي عبدالحميد” لطلبة أكاديمية الفنون أوائل السبعينيات”.
وسار طه سالم بخطوات واثقة حيث كان له دور ريادي في ظهور “مسرح اللامعقول” بالعراق فقدم مسرحيته (فوانيس)، في النصف الأول من الستينيات، وبمسرحيات أخرى مثل (الكوره). وفي ذلك الوقت كان “مسرح اللامعقول” في بداياته العالمية مع ندرة الترجمات إلى العربية، ولقد كان “طه سالم” مبتكراً وليس مقلداً في “مسرح اللامعقول”، حيث أدخل الفلكلور الشعبي ضمن عوالمه المسرحية.
لقد كان طه سالم كاتباً منتجا ومجيدا في آن واحد، إذ نال العديد من الجوائز، فقد قطفت مسرحيته الشهيرة «بازبند» الجائزة الأولى للدراما عام ١٩٦٩ – ١٩٧٠، ونالت مسرحيته «الحطاب الصغير» أيضاً الجائزة الأولى للدراما في السنة التالية ١٩٧٠ – ١٩٧١، كما نال عام ٢٠٠٢ تكريم مهرجان الرواد الثاني الذي أقامته الجامعة العربية عن الأدب المسرحي، وفي عام ٢٠٠٣ تم تكريمه بجائزة الإبداع.
لذلك فالكثير من المتابعين للتراث في النص العربي وخاصة عند توفيق الحكيم يؤشرون تأثر طه سالم بتلك النصوص، فاستلهم منها الحكايات الشعبية والفولكلور وهذا ما كان واضحاً في مسرحيتيه «الكوره» والبقرة الحلوب»، ثم كان التأثر الهائل بالأدب العالمي فمن تشيخوف تعلم الاهتمام بحياة الطبقات الدنيا المسحوقة والكتابة عن الصراع الاجتماعي، ومن غوركي تعلم الاعتماد على الشخصية أكثر من الاعتماد على العقدة، وأن يبعد اللغة عن التنميق كما المسرحية الشهيرة «الحضيض»، ومن يوجين أونيل تعلم التعبيرية في الكتابة برسم شخصية رئيسة واحدة لتكون البنية من خلال نظرة تلك الشخصية إلى الأزمات الشخصية والعامة وغالباً ما كانت هكذا مسرحيات تحتوي على عدد كبير من المناظر والمشاهد وبشكل متتابع، ومن ابسن تعلم الرمزية بعدم تصوير العالم الحقيقي فكتب مسرحيته «مدينة تحت الجذر التكعيبي» وهي حكاية ترويها العلامات غير البشرية والدلالات الاجتماعية الموحية، ومن بريخت تعلم الحرفة الملحمية التي أتت ثورة على كـل ما هـو تقليـدي ومألـوف فـي المسـرح.
وفي العودة إلى نشاطاته كممثل ذكر في سجله أن أول دور قام به هو دور «فتاة صغيرة» أيام الإعدادية، وفيما بعد شارك في أعمال فرقة (نجوم المسرح) برفقة سعدون العبيدي وخليل شوقي وفاضل القزاز ومحسن العزاوي وهؤلاء كانوا يمثلون رواد المسرح العراقي وقتها. وفي العهد الجمهوري أي بعد عام 1958 عمل مع فرقة المسرح الحديث ومع المسرح الجمهوري بصحبة الفنان المرحوم يحيى فائق، ثم فرقة مسرح بغداد، لقد اتسمت قدراته بالتمثيل والاداء بامتلاكه صوتاً جهورياً فنياً راقياً أثار إعجاب أستاذه حقي الشبلي في هيمنة مدرسة الصوت على الأداء التمثيلي في المسرح العالمي، فضلاً عن رشاقته التعبيرية في وجهه على الأخص وامتلاكه ذهنية متقدة جعلته يندمج مع أدواره ويجسدها بشكل واقعي بعيداً عن التصنع والتكلف الذي كان سائداً في ذلك الزمن.
شارك الرائد طه سالم كممثل مع فرقة المسرح الفني الحديث، وفرقة اتحاد الفنانين، وكانتا من الفرق الخاصة، ولا تأثير للنظام وحزب البعث فيهما… لكن في التلفزيون كانت تجاربه قليلة، لأنه كان محاصراً لعدم انتمائه إلى حزب البعث… ونذكر من أعماله التلفزيونية «تحت سقف واحد وعيونها والنجوم». ويجيب عن سؤال معتاد في ذلك الوقت “هل طلب منك بصورة مباشرة أن تلتحق بركب البعث؟ “نعم… لقد ساوموني إذا انتميت إلى البعث فسأكون بطلاً لمعظم الأعمال التلفزيونية لكني رفضت”. لقد ولـَّدَت هذه الحالة إحباطات في نفسه احباط في ذلك الوقت، وهو الذي تفاءل بانهيار النظام السابق، وتوقع الانفتاح من النظام الجديد على الكتاب الرواد لاسيما الذين كانوا مهمشين مثله! الحرية واحة كبيرة للفنان لأنها تتيح له الإبداع والانطلاق، وعلينا أن نفهمها بمغزاها الحقيقي بعيداً عن التهميش وغلق الأبواب أمام المبدعين”.
عاصر طه سالم كبار الفنانين العراقيين مثل يوسف العاني وعادل كاظم والذين عرفوا بأساليبهم الخاصة حيث «تميزت مسرحياتهم بمواضيعها المستجدة التي تختلف عن مواضيع سوابقها من المسرحيات خصوصاً في طروحاتها عن وجود الإنسان ومصيره في هذا العالم بشكل وأسلوب يقترب كثيراً من الأشكال والأساليب الحديثة فيوسف العاني كتب المفتاح والخرابة وعادل كاظم كتب الطوفان وتموز يقرع الناقوس». لقد تميز طه سالم بالتفرد بأسلوبه الطليعي الذي وصف في بدايته بالتطرف كما ظهر في (فوانيس وطنطل).
وشهدت التجربة المسرحية العراقية والعربية توجهاً نحو توظيف التراث, فقد استخدم «سعد الله ونوس هو الأخر التراث المفتوح أيضاً رغم أن مسرحياته تدور في زمن الحاضر وتعكس القضايا المباشرة والآنية لاهتمامات الواقع العربي فكان يلجأ إلى الشخوص ذات الأبعاد الدرامية أكثر من اللجوء إلى الأحداث ويتضح من خلال ما قدمه سعد الله ونوس. ان اهتماماته في الحكواتي والعرض الشعبي واتخاذ المقهى في الغالب مكاناً لعروض قد شكلت مميزات خاصة للمسرحية الجديدة باعتماد الموروث والحكايات الشعبية، وقد تجلى ذلك في مرحلة الستينات في العراق.
وشهدت التجربة المسرحية العراقية ومن ضمنها كتابات طه سالم توجهاً نحو توظيف التراث باعتماد الأساطير والموروث والحكايات الشعبية «في التأليف المسرحي، هي اعتماد المؤلف على الحكاية الشعبية في تأليف النص المسرحي أو تحويلها إلى نص مسرحي، وقد ارتبط هذا اللون من التأليف بمرحلة التجديد في المسرح العراقي واعني بها أوائل وأواسط الستينات» من خلال التعامل مع التراث واستلهامه بروح معاصرة جديدة، فلم يكتب التراث عبر تنوعاته مستخدماً للتذكير بالماضي ومحاولة استنساخه بقدر ما كان وسيلة لتقديم طروحات فكرية تتناسب مع المتغيرات الفكرية والسياسية سواء أكانت تلك المتغيرات تتعلق بالمجتمع نفسه أم بموقفه إزاء ما يحيط به من أحداث عالمية تشكل هي الأخرى مؤثراً في ما يطرأ في الداخل من تحولات.
لذا فإن طه سالم يعد أحد الكتاب العراقيين بحق الذين استلهموا التراث في كتاباتهم فكانت المعتقدات والحكايات والشعر الشعبي والأمثال والتقاليد هي المادة الأساسية التي ينطلق فيها في كتاباته المسرحية «فقد كتب عن قطاعات وعن أشخاص شعبيين ففهمهم أكثر من سواه من الشباب فكانت (الكوره) واحدة من مسرحيات العمل الاجتماعي، ثم (تراب) وقد سارت بالاتجاه نفسه وألحقها (بالبقرة الحلوب) مسرحية عن العراقي المعطاء نفطاً ونفساً، ولكن النفط يذهب للأجانب، والنفوس ضحايا للاضطهاد الطبقي.
ومسرح طه سالم شعبي لا بلغته، بل بشخصياته وأهوائها الحياتية، إنه يخلق مناخاً بإمكانك أن ترى الملامح الشخصية المتفردة والأفكار السياسية».. إن هذا المناخ بتفاصيله وتقاليده كافة عكسه من خلال الزاوية السياسية والاجتماعية والفكرية للموقف السياسي الذي يسكنه.
وهنا لابد ان نستمع لبعض آرائه منها تأثيره على البعض يقول:” معظم الأستاذة في الفن اليوم خرجوا من عباءتي… أذكر منهم الدكتور صلاح القصب الذي أدخلته معهد الفنون الجميلة، حين كنت في النشاط المدرسي وشاهدته في إحدى المدارس، ولا يفوتني أن أذكر، هنا، ابنتيّي، شذى وسها وكذلك شقيقهما فائز فقد تخرجوا من مدرستي، قبل تخرجهما في الأكاديمية. ولا بد من الإشارة إلى رعايتي لشقيقتي وداد سالم”.
وعن الخريجين الذين اخرجوا أعماله يقول: إن أبرز مَن قدم مسرحياتي، هو الفنان إبراهيم جلال والفنان محسن العزاوي لأن عقليتهما منفتحة ومتنورة، ولا يعتمدون الأساليب التقليدية في العمل المسرحي، ويواكبان التطورات في هذا المجال. فمسرحيتي طنطل التي أخرجها العزاوي، أثارت جدلاً واسعاً، فقد قال عنها الناقد المسرحي المترجم يوسف عبد المسيح ثروت: إن جميع كتاب المسرح في العراق تأثروا بالمسرح العربي، إلا طه سالم فله أسلوبه الخاص، في حين قال عنها الناقد حميد رشيد: إنها هاملت في بغداد، وناقد آخر، لا أذكر اسمه الآن، قال: إنها – طنطل – أول عمل في مسرح اللامعقول، في العراق، وثاني تجربة في الكتابة للمسرح العربي، بعد توفيق الحكيم، وقال الناقد علي حسين: إن طه سالم هو رائد المسرح التجريبي في العراق، وقال سامي عبد الحميد: إنه عمل طليعي، في حين قال نيازي عبد الله عن مسرحيتي «فوانيس»: إنها شمس مشرقه في المسرح العراقي”.
وعن أحب ما قام به يقول: “التأليف المسرحي أصعب وأشق من غيره… ومسؤوليته التاريخية أخطر من فن التمثيل والإخراج… لهذا تجد أن كُتاب المسرح، في العالم، نادرون، في حين يعجّ فن التمثيل بالمواهب التي لا تعد ولا تحصى، فضلا عن ذلك أجد في الكتابة فرصة أفضل لخدمة شعبي وفني”.
وعن الفنان الذي تأثر به، يقول “طه سالم”: “أستاذي الراحل والكبير حقي الشبلي وهو في نظري قمة في التربية الفنية، وهو الذي أسس قواعد التعبير الصحيحة، وصقلَ المواهب في الحركة الفنية العراقية، كذلك الفنان إبراهيم جلال الذي يعد مفخرة عراقية وعربية في الإخراج، كذلك الحال مع الفنان جاسم العبودي وأسعد عبد الرزاق، اللذين قدما خدمات جليلة للفن العراقي”.وبخصوص الجوائز والتكريمات فقد حصد العديد من الجوائز التقديرية في العديد من المناسبات، وفضلاً عن ذلك نال العديد من الجوائز التقديرية في مسابقات التأليف المسرحي والتليفزيون وكرائد للفنون المسرحية والأدب المسرحي”.
رحل الرائد الكبير طه سالم في 16 مارس 2018 عن عمر يناهز 88 عاما، بعد ان ترك كنزا مسرحيا سيبقى نابضا بالصورة والحياة للمستقبل.