المسرحي والسينمائي الرائد “قاسم حول” فنان حمل معه عذابات البصرة وشرب من مائها المالح باتجاه أوجاع بغداد، بدأ حياته المسرحية في وقت مبكر وصعد المسرح المدرسي وعمره عشرة أعوام، ومثّل على مسرح حر خالٍ من القيود. وبدأ بكتابة المسرحية ونشر أول مسرحية وعمره (19) عاماً، ونشر الكثير من الأعمال المسرحية، لكن عينه كانت سينمائية.
ولد المخرج المسرحي والسينمائي قاسم حول في مدينة البصرة جنوب العراق عام 1940، بدأ من المسرح، وعمل في النشاط الصحفي، والتلفزيوني، والاذاعي والمسرحي. وفي عام 1966 اسس وبعض الاصدقاء مؤسسة (افلام اليوم) التي انتجت فيلم (الحارس)، الذي كتب قصته ومثل فيه (قاسم حول) نفسه. واخرجه الفنان الكبير خليل شوقي. نال الفيلم جائزة التانيت الفضي في مهرجان قرطاج السينمائي. وعندما تخرج من معهد الفنون الجميلة بعد خمس سنوات من الدراسة ومجموعة الفنانين قاموا بتأسيس فرقة «مسرح اليوم» التي احتضنت مواهب مسرحية وانتجت عروضا مهمة وتجارب جادة، الا أن السلطات آنذاك قامت بإلغاء هذا الامتياز، وكذلك توقف مجلة السينما، لكن قاسم حول لم يتوقف حماسه فأنشأ شركة جديدة أسماها – سنونو فيلم –بعدها قرر السفر إلى لبنان عام 1975.
وفي عام 1970 التحق بصفوف المقاومة الفلسطينية في بيروت، وأنشأ وحدة افلام سينمائية، واخرج مجموعة من الافلام بينها (النهر البارد) و(بيوتنا الصغيرة) و(لماذا نحمل السلاح) و(لن تسكت البنادق) .
وفي عام 1976 عاد الى العراق واخرج فيلمه التسجيلي (الاهوار) ، ثم اخرج فيلمه الروائي الاول (بيوت في ذلك الزقاق) . وغادر العراق مرغما ليقيم في المنفى.
إلى جانب إبداعه السينمائي والمسرحي واصل الفنان قاسم حول ألوان الكتابة في المسرح والقصة وجماليات السينما، وصدرت له عدة كتب ترجم بعضها إلى لغات عالمية وقدمت تجاربه في بعض المعاهد وكتبت عنه دراسات اكاديمية.
ولعل الفنان قاسم حول، يعد اليوم من أبرز الوجوه السينمائية التي ساهمت في وضع أسس لسينما عراقية جادة من خلال جهوده المتنوعة، لأن السينما هي الفن السابع وهي جامعة الفنون الأدبية والمعمارية والشعرية والموسيقية في إطار واحد ساحر جميل هو الفيلم السينمائي. ظهر لأول مرة ممثلا بمعية فرقة تابعة لنادي الاتحاد الرياضي في مدينة البصرة بالعراق. ثم أسس فرقة مسرح النور في البصرة.
وقف الفنان قاسم حول المعذب والمنفي دائما باتجاه العالم الحر الذي يستقبله فنان متميز يبحث عن حريته وحرية وطنه يوما قرب دكان والده الكائن على طريق «الدوكيار» في ميناء البصرة، وكان طالبا في المدرسة الإعدادية. يومها كان شغوفا بالكاتب المسرحي والقصصي الروسي تشيخوف، وفي الوقت ذاته مولعا بالسينما ويكاد أن يكون مدمنا على شاشتها معجبا بجيمس دين وآقا جاردنز وجنيفر جونز وجوان كرافورد، وكانت تسحره شهرة «شارلي شابلن» وبدأ يقرأ ساغان وسارتر وبوفار وكامي.
يقول حول: (قلت مع نفسي وأنا ألبس دشداشة بيضاء قديمة «سأتجاوزهم!» لم يكن ذلك ادعاء فما أن أنهيت المدرسة الثانوية والتحقت بمعهد الفنون الجميلة ببغداد حتى شكلت جماعة مسرح اليوم ثم بعد تخرجي أنشأت مؤسسة أفلام اليوم وأنتجنا فيلم «الحارس» الذي أصبح إشارة مهمة في تأريخ السينما العراقية وبه حصد العراق أول جائزة كبرى في السينما، كما أصدرت مجلة السينما اليوم. لكنني بعد سنتين من عرض هذا الفيلم وجدت نفسي مغمى علي في زنزانة بسبب التعذيب وشعرت بقطرات ماء على وجهي وعندما أفقت وجدت صبيا في حدود السادسة عشرة من عمره ينث على وجهي ماءً باردا لكي يوقظني. خبرني فيما بعد أنهم يستدعونه كل ليلة ويغتصبونه، يغتصبه أكثر من شخص في غرف ما يسمى بمديرية الأمن الكائنة قرب القصر الأبيض بالبتاويين كان ذلك عام 1969. كتبت عنه قصة طويلة عنوانها «وسيم الله» منشورة ضمن أعمالي الكاملة – القصص القصيرة، لكن بالنسبة لي ماذا على أن أكون؟ ممثلا؟ كاتباً؟ مخرجاً سينمائياً؟ كنت أعشق كل شيء، أن أصبح مسرحيا وسينمائياً).
كان أخوه سامي وهو أكبر منه قد ذهب لمشاهدة فيلم «عنتر وعبلة» ثم شاهده مرة ثانية وثالثة، وكان يروي له تفاصيل الفيلم ويغني أغاني شيبوب «من ربع الخراب جينا. لأحبابنا وأهالينا. أنا مشتاق إلى أكله وعنتر يشتهي عبلة» خلق له من خلال حكاياته عن الفيلم رغبة شديدة لمشاهدة الفيلم. كان والده يعتقد أنه لا زال صغيراً على مشاهدة الأفلام لأنها كما يعتقد تفسد الأخلاق. لكنه تسلل مع أخيه إلى صالة سينما الرشيد بالبصرة وكان الازدحام شديداً على شباك التذاكر حيث بقي الفيلم يعرض في صالة سينما الرشيد أكثر من ثلاثة شهور وعلى مدى أربعة عروض يومياً.
التحق حول في مدرسة عتبة بن غزوان الابتدائية، وكان يدرسه دروس الإنشاء المعلم عبد الوهاب، وانتبه له، وكانت المدارس تقدم في كل عام حفلا مدرسيا، تلقى فيه الكلمات وتقدم فيه التمثيليات، فأعطاه كلمة لكي يحفظها ويلقيها في الحفل، وبعد أن ألقى الكلمة وسط تصفيق الإعجاب، تنحى جانبا قرب كواليس المسرح، لمشاهدة مسرحية عنوانها «الوفاء بالعهد» وبعدها قدموا فصلا كوميدياً عن حلاق وزبونه، كان الحلاق يضع اللبن الرائب على وجه الزبون على أساس رغوة الصابون، وما أن يلتفت الحلاق يكون الزبون قد لحس الصابون – اللبن، فعرف أوليات الحيل المسرحية.
وفي الاسبوع التالي شكل فرقة مسرحية، وكان في الصف الرابع الابتدائي، وتحضرا لتقديم عمل مسرحي في ازقة وصرائف البصرة، واختار ممثلا بصريا ليؤدي دور الحلاق، وهو بدور الزبون ، وجلب لهم طاسة لبن رائب من أهله دون علمهم، وسرق عباءات النسوة، وعملا منها ستارة، ولكن قبل أن تفتح الستارة، كانت النسوة يبحثن عن العباءات كي يخرجن للسوق للتبضع، فعثرن عليهم وشاهدن العباءات معلقة على حبل كستارة للمسرح، وحين رفعن العباءات شاهدن اللبن الرائب والمناشف، وبضعة أطفال مشاهدين يفترشون الأرض، وبدأ الصياح وهرب من كان معه من الممثلين ، بعد عراك بين النسوة وبينهم .
كان المخرج المسرحي توفيق البصري يبحث عن ممثل صغير ليلعب دوراً في مسرحية «لو بالسراجين لو بالظلمة» من تأليف يوسف العاني. كان توفيق البصري يقدم مسرحيات معادة من عروض فرقة المسرح الحديث. يذهب إلى بغداد ليشاهد المسرحيات ويعود ليمثل أغلب تلك المسرحيات التي تقدمها الفرقة، فأختاره لدور صبي يبحث عن أخ سكير في الشوارع ليبلغه عن موت أخيهم «جبوري» فنجح في تقديم مشهد مؤثر، فصار يومها الصبي حول حديث الناس وبين جمهور عشاق المسرح البصري.
بعد هذا الدور القصير وتغير الواقع السياسي من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري في 14 تموز 1958 أعد المخرج توفيق البصري مسرحية عنوانها «من ثورة العشرين» مقتبسة عن مسرحية «الفدائي حسن» للكاتب السوري خليل الهنداوي، وقد أعطاه الدور الرئيس «دور الفدائي حسن» الذي سجل فيه نجاحا كبيراً. وفي ليلة الافتتاح كانت الفرقة الموسيقية تعزف بعض الأغاني الوطنية والعاطفية قبل تقديم المسرحية، وعندما انسحبوا من المسرح نسوا أن يسحبوا أحد الكراسي، فتركوه، فيما منظر المسرحية منطقة جبلية وأحراش ويختفي فيها الثوار. وصار الكرسي موضع لغط وهمهمة بين الجمهور، وحين جاء دوره ودخل المسرح صاح على الثوار .. هذا كرسي من بقايا جنود الاستعمار الذين كانوا هنا، فمسكه ورماه خلف ديكور الجبل، فأدرك الجمهور انتباهه وصفقوا له كثيراً، وكان توفيق البصري مخرجا وكاتبا وممثلا موهوبا، ولعب دوراً هاماً في تاريخ المسرح البصري، كما مثل دوراً قصيراً في فيلم «أوراق الخريف».
استمر حول في التأليف المسرحي فكتب مسرحية «عودة السنونو» والمسرحية عن شاب يهاجر، ويترك أسرته، وحين تدهمه الأحداث ويعود إلى مدينته وأهله ويدخل الدار يسقط طير السنونو من السقف ميتاً، أخرجها المسرحي توفيق البصري وبرفقة منعم شاكر، كما تضمن الكتاب مسرحيات المهرج والبيت، نشرها بمطبعة النجف عن دار الكلمة التي يملكها الصحفي والمؤرخ الراحل حميد المطبعي. مسرحية المهرج بطلها أستاذ جامعي متقاعد، كتبها وعمره اثنان وعشرون عاما. وهذه الشخصية تمثل شخصا في عمر يتجاوز الستين عاما، يقول بهذا الصدد (وعندما تجاوزت الستين وقرأت المسرحية أصبت بالدهشة حيث التطابق بين التصور وأنا في مرحلة الصبا وبين الحقيقة حين بلغت الستين). المسرحية الثالثة في كتاب عودة السنونو هي مسرحية «البيت» وأهديت للصحفي والكاتب حميد رشيد صمم الغلاف الكاتب الصديق الفنان جودت حسيب، واللوحات الداخلية للفنان عجيل مزهر.
كانت أول سفرة لبغداد بالقطار خارج مدينة البصرة للدراسة، وصل بغداد فاخبروه في معهد الفنون الجميلة أن القانون يقتضي أن تؤدي دورة الاحتياط العسكري في الجيش قبل مواصلة الدراسة، فذهب إلى وزارة الدفاع بحجمه الضئيل ونقوده القليلة. رفضوه بعد أن وزنوه في خدمة الاحتياط بالجيش العراقي في معسكر الرشيد حيث كان الحد الأدنى للوزن أربعين كيلو غراماً، وشكر الله على هذا الفقر الذي منحه إياه وقليل الطعام الذي لم يؤهلني لحجم وزنه أربعين كيلوغراماً لكي يخدم في الجيش تحت رحمة رؤساء العرفاء.
عاد وقدم ملفه إلى إدارة المعهد ودخل غرفة معاون العميد شكري المفتي، نظر نحوه نظرة بدت غير ودودة، وأخبره أن طلبه مرفوض، فسأل، ولكن لم تختبروني؟ أجاب أن طلبك مرفوض لأنك وضعت يدك في جيبك، وهذه ليست وقفة لطالب لا يحترم أساتذته، أخذ الملف وعاد إلى البصرة.
في البصرة مكث عاما يقدم المسرحيات حتى حان موعد تقديم الطلبات مجددا. حمل ملفه الى بغداد وبدأ يسأل عن عنوان أستاذ المعهد الشهير ورئيس قسم التمثيل المخرج إبراهيم جلال الذي وصفوه له في منطقة الأعظمية وصار يدور في أزقتها وقت ظهر قائظ، وكان أبراهيم جلال شخصية معروفة، طرق الباب بالمدقة التي تشبه اليد، فخرج لي شاب وسيم ببنطال أبيض وقميص أزرق قاتم بنصف كم، شاب جميل ممتلئ نسبياً، أشقر الشعر متورد الوجنتين فهو مشهور بجماله الرجولي. رحب جلال به وقدم له نفسه «قاسم حول مخرج وممثل مسرحي من البصرة .. إلى آخر الحكاية» ضحك كثيراً وقال له وعدت إلى مدينتك في السنة الماضية؟ قال له نعم؟ أيا مجنون قال انت؟ لو عدت بعد ربع ساعة إلى المفتي أو لو غيرت قميصك لتسلم ملفك وأعطاك موعد المقابلة. هذا رجل طيب وينسى الحادثة بعد بضع دقائق. أخذ منه الملف وقال تعال غداً للمعهد.
ذهب قاسم في اليوم التالي إلى المعهد وتسلم ورقة فيها موعد المقابلة تمت مقابلته واجتاز الامتحان، وبدأ الدراسة، دراسة الدراما وتاريخ المسرح والتمثيل والماكياج بإشراف أساتذة عمالقة حقا، ودخل عالماً جميلا جمع كثيراً من الأصدقاء وتعلم الكثير مما لم يكن يعرفه وبدأت آفاق المسرح والسينما تتفتح أمام عيونه. العاصمة هي غير المدن الثانية. صالات سينما وعزوبية ومطعم عمو الياس والمقهى البرازيلية واتحاد الأدباء والأهم صالة سينما الخيام وصالة سينما غرناطة ومجمع صالات روكسي وريكس وإذاعة وتلفزيون وأساتذة جميلون ومرموقون حقاً. أحبهم ولا يزال يكن لهم الاحترام في وطن لا يذكرهم الان بعد كل الذي جرى لهذا الوطن الغالي!
معاون عميد المعهد شكري المفتي الذي رفض طلبه، لأنه وضع يديه في جيبه يقف أمامه الان، فعلمه أول درس في طقوس الثقافة المسرحية والسينمائية. علمه درس الحاجز السحري الذي ينبغي أن يبقى شامخا بين الطالب والأستاذ، بين المخرج والممثلين. فعمل بأول مسرحية قدمها على مسرح معهد الفنون الجميلة هي نفس المسرحية التي قدمها في رحلة اتحاد الطلبة «يسقط الاستعمار» ولكن طورتها كثيرا وقدمها مع علي فوزي، وهي مسرحية «بانتوميم» صامتة، وكانت الصالة مكتظة بالطلبة المشاهدين.
عندما بدأت الدروس الأولى في معهد الفنون الجميلة وأغلبها كانت في البداية دروس التعارف والتعرف على مستوى الطلبة ومستوى الأساتذة في ذات الوقت، وجد أن تلك الدروس لا تملأ ذاته المسرحية كثيراً، سيما وأنه كان قارئاً ممتازاً للثقافة المسرحية والمسرحيات. وكان يشعر بطاقة هائلة للتمثيل. لكن ان تمني ثقافة مسرحية جديدة حملها أساتذة كبار من أمريكا جاسم العبودي، إبراهيم جلال وأخيراً التحق أستاذ من أمريكا أيضاً وهو قس في كنيسة، أحب المسرح ودرسه واسمه بهنام ميخائيل جعله ينتبه منظر ومحدث جديد هو عالم المسرح العالمي «ستانسلافسكي» كان بهنام ميخائيل أمريكي المزاج ، كما كان يحدثنا ان المسرحيين الامريكان يدينون في حياتهم المسرحية للمسرحي الروسي الكبير قسطنطين ستانسلافسكي رغم الكراهية الأمريكية للروس.
كان عدد طلاب دورته قد جاوز العشرين شخصاً. لكنهم مع الوقت ينسحبون الواحد بعد الآخر. وعرف فيما بعد أن المعهد كان يقبل المتخرجين من ذوي المعدلات تحت الوسط والتي ترفضها الجامعات العراقية، بقي ما يقرب اربعة أشخاص معه، متحمسين لواقع الفن والسينما والتغيير وافتعال المختلف لابتكار شيئ في مجال الثقافة الفنية والثقافة المرئية. هؤلاء الأربعة هم أحمد فياض المفرجي، منير عبد الأمير، شاكر الفارسي، وهو، ثم انسجم معهم الممثل مكي البدري، حيث وجد فيهم بذرة الأمل لغد ثقافي مسرحي وسينمائي متميز مع أنه كان أكبر منا سناً.
كان قاسم حول مشاكسا وكان قارئا نهما للثقافة، فلا مسرحية من المسرحيات العالمية أو كتابا من كتب الفلسفة أو رواية تباع في سوق الكتب إلا واقتناها وقرأها وكتب عنها ، كما كان مشاهدا لأغلب الأفلام التي تعرض في صالات السينما، كل الأساتذة كانوا محبوبين لديه إبراهيم جلال، جاسم العبودي، جعفر علي، سعدون العبيدي، الحاج ناجي الراوي، حامد الإطرقجي، وأستاذة الأزياء الجميلة نعمت، وأساتذة تاريخ المسرح الدكتور كمال نادر، الدكتور علي الزبيدي، ثم جاءنا بهنام ميخائيل الذي ترك الكنيسة وتبنى المسرح وصار ينظر للمسرح بنفس قدسية الكنيسة. أول مسرحية أخرجها بهنام ميخائيل هي مسرحية «مسمار جحا» وقد أسند دور جحا للممثل كامل القيسي، وأسند دون الغصن وهو ابن جحا له، كما مثل الملحن كوكب حمزة دورا ثانويا في المسرحية مع أنه يدرس في قسم الموسيقى صباحا. في عام 1962 وفي «مطعم سولاف» في الباب الشرقي، فكر تياراً مسرحياً متميزاً ومعاصراً لأنشاء فرقة مسرحية اتفقوا على تسميتها «جماعة مسرح اليوم» دون أن يكون لهم مقر ولا فلوس للإنتاج. وأرسلوا إلى صحيفة البلاد التي يملكها فائق بطي وسلم البيان إلى الصحفي وائل العاني، وفي اليوم التالي ظهر البيان في جريدة البلاد. تصور القراء، أنها مجرد نزوة، مثل نزوات مرت على الحياة الثقافية، وتلاشت، وسوف لن يكون البيان أكثر من بيان بسطوره العشرة!
في معهد الفنون الجميلة انتبه الأساتذة إلى شخصيته وكانت ثمة مسرحيات لطلبة التخرج وقد اختاره الطالب عبد الله جواد لأداء دور أطروحته وهي مسرحية «ولدي» لـبيير ديديه، وكانت مسرحيات التخرج تقدم لجمهور المسرح في صالة معهد الفنون الجميلة، أثارت المسرحية اهتمام الصحافة ويومها كتب الصحفي حميد رشيد مقالة «قاسم حول .. دخل المسرح من السقف». مثل دور عجوز عمره سبعين عاما وكان عمره إثنين وعشرين عاما، لم يفتعل الحركة ولم يظهر عليه التمثيل ولم يكن يعتقد أحد انه بهذا العمر قد انسجم مع الشخصية.
وفي أحد الدروس طلب منه استاذه بهنام ميخائيل أن يمثل شخصية مجنون، وكان أداؤه يثير الضحك في الصف، فطلب منه أن يذهب إلى مستشفى المجانين لمدة خمسة عشر يوما. ذهب إلى مستشفى المجانين ولبس الملابس التقليدية، وكان يقف بالدور، وأمسك طاسة وفي كل يوم يضع فيها الطباخ الحساء أو الرز ويتجول مع المجانين في الساحة ويلقي نظراته على بعضهم ويشخصهم مراقبا سلوكهم، دون أن يمكث معهم ليلا، لكنه كان يتجول في أروقة المستشفى الذي يسمى «الشماعية» وعاد للمعهد مجنوناً حقيقياً.
كان الأساتذة يخرجون المسرحيات ويعطون الأدوار لطلبة المعهد وكانت المسرحيات تلك جزء من الدروس التطبيقية، وكانوا عادة يختارون المسرحيات العالمية لكبار كتاب المسرح. جاسم العبودي قدم مسرحية «كلهم أولادي» لآرثر ميلر، بدري حسون فريد اختار مسرحية «عدو الشعب» لابسن، بهنام ميخائيل اختار مسرحية « مسمار جحا « لعلي أحمد با كثير. وقد مثل فيها دور «الغصن» ابن جحا. وكان الحاج ناجي الراوي يقوم بعمل الماكياج للمسرحيات، ويعتبر ذلك تطبيقاً عملياَ.
مسرحيته في التخرج كانت «خمسون دقيقة انتظار» مثلها ثامر مهدي وشاكر الفارسي. كما مثلت مسرحية «الشريط الأخير» لصموئيل بيكت، من إخراج أحمد فياض المفرجي. ومسرحية «ضرر التبغ» وهي مسرحية «مونودراما» بشخصية واحدة من إخراج فاروق فياض، ثم أخرجها على مسرح قاعة الخلد جعفر علي وفي مسرح قاعة الخلد كانت القاعة ممتلئة حتى في ممراتها، ويتذكر أنه أنسجم مع شخصية «نيوخين» التي تركت تأثيرا كبيرا على الجمهور، فقدمها ثالثة في مسرح المركز الثقافي السوفيتي. بعدها سافر إلى الكويت وقدمها من تلفزيون الكويت وأخرجها تلفزيونيا المخرج العراقي خالد أمين.
كان وبرفقة الطلبة يتلقون دروس الماكياج على يد ناجي الراوي، والرياضة المسرحية والمبارزة على يد أستاذ ألماني من المانيا الديمقراطية ضمن اتفاقية ثقافية، ودرسه تاريخ المسرح الدكتور كمال نادر ومن ثم الدكتور علي الزبيدي، ودروس الديكور حامد الأطرقجي، ودروس الأزياء من قبل الأستاذة نعمت حسو وكان يوسف العاني يلقي محاضرات دروس الارتجال.
في تلك الفترة التحق بالمعهد من امريكا جعفر علي، شخصية ممتلئة من ثقافات الغرب على المستوى الأكاديمي، وكان يحتاج إلى فترة لكي يوازن بين معرفته الأكاديمية وبين واقع العراق الثقافي المسرحي والسينمائي حتى مع الوقت أصبح واقعيا ونزل إلى واقع العراق الذي كان يظن إمكانية تطبيق ما عاشه في أمريكا ثقافيا والشروط الموضوعية هناك، فاختير رئيسا لفرقته فرقة مسرح اليوم جعفر علي، تعلم على يده جيل جديد من السينمائيين الشباب، أخرج للفرقة عددا من المسرحيات والتمثيليات التلفزيونية، وأخرج فيلمين في حياته «خمسة أصوات» عن رواية غائب طعمه فرمان وفيلم الجابي، وكان يريد أخراج قصة سينمائية كتبها حول بعنوان «ناجي» وكتب لها السيناريو، ولم تتحقق بسبب هجرته الوطن مرغما. وجاء من أمريكا أيضا مخرج ارمني هو حكمت لبيب وأديس. وقد أخرج فيلما ينتمي إلى الواقعية بشخصيات بسيطة وحادثة واحدة، تتابعها الكاميرا التي كان يديرها ماجد كامل، وكان عنوان الفيلم «قطار ساعة سبعة» بطولة سعدي يونس والممثلة دينا فريد والممثل كريم عواد. كان الفيلم تنقصه الدعاية، وبعد فترة قرر ستوديو هاماز إنتاج فيلم سينمائي، طالما تتوفر في أحواضه الأحماض، وتوفر أشرطة مغناطيسية في الستوديو، المهم أن يستفاد من تقنيات الستوديو وتشغيلها، فاختاروا قصة من التراث الأرمني، كتبها سينمائيا «أدمون صبري» وهو نفس كاتب قصة «شجار» التي تحولت إلى فيلم «سعيد أفندي» وقصة فيلم «من المسؤول» التي أنتجت بنفس الأسم. وحاول أن يدرج المخرج أسماء معروفة ليلعبوا شخصيات الحكاية التراثية. ومن بينهم الممثل الكوميدي سليم البصري الذي بزغ نجمه في تلفزيون بغداد، مع الممثلة مورين، كما لعبت الممثلة وداد سالم وكذلك الممثلون سعدون العبيدي ويعقوب الأمين وحامد الأطرقجي، ومن البصرة اختار توفيق البصري ليؤدي دورا ثانويا، وكانوا يعولون على نجاح الفيلم بشكل كبير، كما حصل مع فيلم «سعيد أفندي»، وقد استأجروا أكبر صالة سينما بعدد كراسيها، وهي «سينما النصر» التي تحتوي على ألفين وأربعمائة كرسي.