« يئنُّ كَوكبُنا الأُمِ اليومَ تحتَ وطأةِ الأزماتِ المتشابكةِ والتهديداتِ التي تتحدّى الإنسانيّةَ على مختلفِ الأصعدةِ، وهنا ؛ تبرزُ مجدداً رمزيّةُ الشخصيّاتِ التاريخيّةِ في (المِخيّال النخبوي والعام) كمناراتٍ تهدي السائرينَ في دروبِ التَّصحيح، ومن بينِ هذهِ الشخصيّاتِ الفريدَةِ، يَتَجَلّى (الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ) كَصوَتٍ حيٍّ يتردّدُ في ذاكرةِ الإنسانيّةِ، لا بصفتهِ حاكماً أو قائداً فحسبَ، بل باعتبارهِ نموذجاً للفكرِ الذي يتجاوزُ الحدودَ الزمانيّةَ والمكانيّةَ، ليرسمَ معالمَ العدالةِ والحقِّ في مواجهةِ الظلمِ والادّعاءِ.
ورغمَ أنّ الإمامَ عاشَ قبلَ قرونٍ، إلّا أنّ صورتَهُ تتجدّدُ اليومَ كمرآةٍ فلسفيّةٍ تعكسُ التناقضاتِ العميقةَ التي نعيشُها؛ فهو (صوتُ العقلِ العادِلِ في زمنِ الجنونِ)، و(نداءُ الإنسانيّةِ الشّغوفِ في عصرِ الأزماتِ).
إنّ الإمامَ عليّاً، الذي عُرِفَ بتلكَ المصداقيّةِ الصارمةِ الممزوجةِ بالرحمةِ، يقفُ اليومَ شاهداً على طبيعةِ الظلمِ الذي لا يكتفي بمهاجمةِ العظماءِ من الخارجِ، بل يمتدُّ ليشوِّهَ صورتَهم من الداخلِ عبرَ الأدعياءِ الذينَ ينسبونَ أنفسَهم إليهم، فهؤلاءِ الأدعياءُ ليسوا مجرّدَ عابرينَ في التاريخِ، بل هم انعكاسٌ لصراعاتِ القوى التي نعيشُها اليومَ، حيثُ (يُستخدمُ الحقُّ لتحقيقِ الباطلِ)، و(تُستغلُّ القيمُ النبيلةُ لتبريرِ الانحرافاتِ الأخلاقيّةِ والسياسيّةِ). إنّ هذا التناقضَ يبدو أكثرَ وضوحاً في زمنِنا الراهنِ، حيثُ تُرفعُ شعاراتُ (العدلِ والاحتواء)، بينما تُمارَسُ (الهيمنةُ والإقصاءُ) تحتَ غطائِها.
اننا عندما نعودُ إلى إرثِ الإمامِ عليٍّ، نكتشفُ عُمقَ صرامتِهِ في التعاملِ مع الأزماتِ. لقد كانَ (الامام عليٌّ) يُدرِكُ أنّ (العدالةَ) ليست مجرّدَ كلمةٍ تُلقى في خطبةٍ، بل هي (فعلٌ يُمارَسُ بتأنٍّ ومسؤوليّةٍ، يتطلّبُ فهمَ السياقاتِ والمتغيّراتِ دونَ التفريطِ في القيمِ الجوهريّةِ). ومعَ ذلكَ، فإنَّ ما نشهدُهُ اليومَ من توظيفِ اسمِهِ وشعاراتِهِ من قِبَلِ الأدعياءِ يعكسُ أزمةً أخلاقيّةً وفكريّةً كبرى، إذ يتمُّ تقزيمُ إرثِهِ إلى أداةٍ للتنافسِ المذهبي أو السياسيِّ أو الاجتماعيِّ، ممّا يشوِّهُ جوهرَ رسالتِهِ وغاياتِهِ السّامِقة.
ففي العراقِ، الذي يُمثّلُ مسرحاً مركّباً للأزماتِ الراهنةِ، يمكننا أن نرى كيفَ يُستحضَرُ اسمُ (الإمامِ عليٍّ) في سياقاتٍ مختلفةٍ، أحياناً لإضفاءِ شرعيّةٍ على قراراتٍ تفتقرُ إلى الحكمةِ، وأحياناً أخرى كوسيلةٍ لتبريرِ صراعاتٍ لا تمتُّ بصلةٍ إلى مفهومِ العدالةِ الذي حملَهُ الإمامُ.
إنَّ هذهِ الظاهرةَ ليست مجرّدَ (إشكاليّةٍ) سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ، بل هي امتدادٌ (للأزمةِ الحضاريّةِ) التي يعانيها الإنسانُ المعاصرُ، حيثُ يتمُّ تشويهُ الرموزِ الكبرى لتحويلِها إلى أدواتٍ في خدمةِ المصالحِ الضيّقةِ.
لقد واجَهَ (الإمامُ عليٌّ) الأدعياءَ بسلاحِ الفكرِ والكلمةِ، وكانَ يرى فيهم تجسيداً للظلمِ الذي لا يكتفي بالقمعِ المباشرِ، بل يمتدُّ لتقويضِ الأسسِ الفكريّةِ والأخلاقيّةِ للمجتمعِ. ولعلَّ أبرزَ مثالٍ على ذلكَ يتمثّلُ في موقفِهِ من (الخوارجِ)، الذينَ (رفعوا شعاراتِ الحقِّ لكنّهم انحرفوا عن جوهرِهِ)، فانتهى بهم الأمرُ أداةً للفرقةِ والاضطرابِ.
إنّ هذا النموذجَ يعيدُ نفسهُ اليومَ بأشكالٍ مختلفةٍ، حيثُ تتخذُ الشعاراتُ البرّاقةُ غطاءً للهيمنةِ الاقتصاديّةِ والسياسيّةِ، في عالمٍ يعاني من (تناقضاتِ العولمةِ وتكريسِ الاستقطابِ).
ما يحدثُ اليومَ في العراقِ والمنطقةِ الإقليميّةِ من أزماتٍ متشابكةٍ، سواءٌ في السياسةِ أو الاقتصادِ أو الأمنِ أو الثقافةِ، يضعُنا أمامَ تساؤلٍ فلسفيٍّ عميقٍ: كيفَ يمكننا استلهامُ الرموزِ الكبرى دونَ الوقوعِ في فَخِّ الأدعياءِ؟ الإجابةُ ليست سهلةً، لكنّها تبدأُ بفهمٍ حقيقيٍّ لإرثِ هذهِ الشخصيّاتِ، بعيداً عن القراءةِ الانتقائيّةِ التي تخدمُ المصالحَ الضيّقةَ.
إنَّ (الإمامَ عليّاً)، الذي كانَ يرى في (العدالةِ جوهرَ السياسةِ)، لم يكنْ ليقبلَ أن تتحوّلَ قِيمُهُ إلى مجرّدِ شعاراتٍ تُرفعُ دونَ التزامٍ حقيقيٍّ بتطبيقِها.
أما إذا نظرنا إلى المشهدِ الشَّرق أوسطي والعالميِّ، نرى أنّ الأزماتَ الراهنةَ تكشفُ عن فجوةٍ عميقةٍ بينَ القيمِ التي يتغنّى بها العالمُ الحديثُ وبينَ الممارساتِ الواقعيّةِ التي تُكرّسُ الظلمَ والاستغلالَ. إنَّ الحديثَ عن الديمقراطيّةِ وحقوقِ الإنسانِ، في ظلِّ تفاقمِ الحروبِ والصراعاتِ وتزايدِ الفجوةِ بينَ الأغنياءِ والفقراءِ، يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ ما كانَ (الإمامُ عليٌّ) ينتقدُهُ في زمنِهِ من ادّعاءاتٍ خاليةٍ من المضمونِ، وفي هذا السياقِ، يُصبحُ الإمامُ عليٌّ رمزاً ليس فقط للعراقيّينَ أو المسلمينَ، بل للإنسانيّةِ جمعاءَ، كنموذجٍ للقيادةِ التي تجمعُ بينَ (المصداقيّةِ والشجاعةِ)، وبينَ (المبادئِ والعملِ).
إنَّ الإرثَ الذي تركَهُ الإمامُ عليٌّ ليس نصوصاً جامدةً تقبعُ في بطونِ الكتبِ، بل هو رؤيةٌ ديناميكيّةٌ تعكسُ طبيعةَ الإنسانِ في صراعِهِ مع نفسِهِ ومعَ العالمِ.
وعليهِ، فإنَّ استعادةَ هذا الإرثِ تتطلّبُ منّا جهداً مضاعفاً لفهمِهِ في سياقِهِ الأصليِّ، ومن ثمَّ إعادةَ صياغتِهِ بما يتناسبُ معَ تحدّياتِ العصرِ، ففي عالمٍ يهيمنُ عليهِ الضجيجُ والظلم، تُصبحُ الحاجةُ إلى صوتِ الإمامِ عليٍّ أكثرَ إلحاحاً، لا كرمزٍ دينيٍّ فقط، بل كَرمزٍ إنسانيٍّ أدركَ (أنَّ العدالةَ ليست خياراً بل ضرورةً وجوديّةً).
وبالمُحَصِّلة إنَّ الظلمَ الذي يطالُ الرموزَ الكبرى كالإمامِ عليٍّ ليس مجرّدَ تعدٍّ على شخصيّاتِهم، بل هو تعدٍّ على القيمِ التي يمثّلونَها، ولذا فإنَّ مسؤوليتَنا اليومَ تتجاوزُ الدفاعَ عنهم بالكلماتِ، إلى تجسيدِ قيمِهم الايجابية في أفعالِنا ومواقفِنا، وحينَ نتمكّنُ من ذلكَ، سنجدُ أنَّ صوتَ الإمامِ عليٍّ لا يزالُ يتردّدُ، لا في أروقةِ التاريخِ فقط، بل في كلِّ لحظةٍ نسعى فيها إلى تحقيقِ العدلِ وسطَ عالمٍ يعجُّ بالظَّلَمَةِ والقَتَلَةِ والأدعياءِ !