تشهد إيران في السنوات الأخيرة ضغوطًا دولية وإقليمية غير مسبوقة، دفعتها إلى إعادة صياغة استراتيجيتها السياسية والدبلوماسية لتحقيق توازن بين حماية نظامها السياسي وتخفيف التهديدات الخارجية. العقوبات الاقتصادية التي تصاعدت مع سياسة “الضغط الأقصى” التي تبنتها إدارة ترامب تركت أثرًا عميقًا على الداخل الإيراني، حيث تفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما دفع القيادة الإيرانية إلى مراجعة خياراتها الاستراتيجية وتبني سياسات قائمة على تقليل الانخراط المباشر في النزاعات الإقليمية. هذه الاستراتيجية الجديدة تعكس نهجًا تكتيكيًا يتمثل في تقليل التكاليف مع الحفاظ على المكتسبات الإقليمية عبر أدوات أكثر مرونة وفعالية. إيران، التي لطالما اعتمدت على الفاعلين غير الدوليين مثل الجماعات دون الدولة لتعزيز نفوذها الإقليمي، قد تجد نفسها مضطرة إلى تعديل أدوار هؤلاء الحلفاء بما يتماشى مع أولوياتها الجديدة.
في العراق، على سبيل المثال، يمكن أن تضغط طهران على الجماعات دون الدولة الموالية لها للانتقال من العمل العسكري إلى ممارسة السياسة. هذا التحول يعكس إدراك إيران لأهمية تحقيق مكاسب سياسية بأقل تكلفة ممكنة، خاصة في ظل تراجع قدرتها على تقديم الدعم المالي والعسكري المباشر نتيجة العقوبات الاقتصادية. كما أن هذا التحول يمكن أن يساعد إيران في تحسين صورتها الدولية وتعزيز قبولها كقوة إقليمية تعتمد على النفوذ السياسي بدلاً من التدخل العسكري. على الصعيد الإقليمي، يبدو أن إيران تعمل على تعزيز أدواتها الضاغطة غير العسكرية مثل التغلغل الاقتصادي والدبلوماسي. يمكن ملاحظة هذا التوجه في محاولات طهران تحسين علاقاتها مع بعض دول الخليج، مثل السعودية وقطر، لتخفيف التوترات الإقليمية واستعادة دورها كلاعب محوري في المنطقة. في الوقت ذاته، تستمر إيران في تطوير برنامجها الصاروخي ودعم شبكة حلفائها لضمان استمرار نفوذها الإقليمي، لكن مع تقليل المخاطر المرتبطة بالتورط العسكري المباشر. استراتيجياً، التحرك الإيراني يعكس فهمًا عميقًا لمبادئ الواقعية الدفاعية، حيث تسعى طهران إلى التكيف مع الضغوط الدولية من خلال بناء شراكات جديدة مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا. هذه الشراكات توفر لإيران توازنًا استراتيجيًا يمكنها من مواجهة الضغوط الغربية. ورغم تقلص نفوذها في ساحات مثل العراق وسوريا ولبنان، تحاول إيران الحفاظ على مكتسباتها من خلال التركيز على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بدلاً من التدخل العسكري المكلف. هذا التحول الإيراني يمكن اعتباره خطوة تكتيكية تهدف إلى تعزيز استقرارها الداخلي في مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة. كما يمكن مقارنته بالتحولات التي مرت بها دول أخرى مثل مصر في أواخر السبعينيات، حيث تخلت عن بعض أدوارها الإقليمية مقابل تعزيز استقرارها الداخلي. نجاح إيران في تنفيذ هذه الاستراتيجية يعتمد بشكل كبير على قدرتها على إدارة التحديات الداخلية، مثل تفاقم الفقر والبطالة، والتوترات بين التيارات السياسية داخل النظام.
في النهاية، التحرك الإيراني القادم سيكون اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على تحقيق التوازن بين حماية النظام السياسي وتخفيف التهديدات الخارجية. إذا تمكنت إيران من تنفيذ هذا التحول بنجاح، فقد تستعيد بعض نفوذها الإقليمي، لكنها ستظل بعيدة عن تحقيق الهيمنة الإقليمية التي سعت إليها في العقد الماضي. التحول نحو الأدوات الناعمة والممارسة السياسية قد يكون الطريق الأكثر أمانًا لطهران في ظل التحديات الراهنة.