{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } آل عمران118
في خضم التعقيدات السياسية والجيوستراتيجية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والعالم، وتحديدًا في ظل المستجدات المتسارعة في الملفات السورية واللبنانية والفلسطينية، وبالاخص بعد سقوط النظام السوري، يبدو أن الأحداث حُبلى بعد. سقوط كُرة الثلج التي سوف لن تتوقف عند الاعتاب السورية بل سيتسع مداها التدميري للمنطقة بأجمع وفقاً لنظرية «الدومينو» سيئة الصيت.
لقد أصبحت سيناريوهات التفتيت وإعادة رسم الحدود الجغرافية والسياسية لدول المنطقة من أبرز الأدوات المستخدمة لتحقيق أجندات دولية وإقليمية تهدف إلى إضعاف هذه الدول وتشتيت قواها.
التقسيم، الذي إنْبَعَثَ مُجدداً لِيُطرح بصيغ مختلفة كالأقلمة الطائفية أو الكونفدرالية أو حتى التجزئة الكاملة، ليس سوى مشروع خطير يُراد منه تفكيك دول المنطقة إلى كيانات صغيرة وضعيفة، مما يضمن السيطرة عليها وتحجيم دورها على الساحة الدولية. هذا المسار، إذا ما تم المضي فيه، لن يضر فقط بدولة بعينها، بل سيمثل تهديدًا وجوديًا للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط ككل، والعالم أجمع.
لقد حَفِلَتِ الأدبياتُ الصهيونية والهندساتُ الاستراتيجيةُ الغربيةُ بالكثير من مخططات واطروحات التقسيم والتفكيك لجُغرافيات وشعوب الدول المنافسة والخصمة والعدوّة، كمرتكز أصيل في عمليات تجريف القدرات وتفتيت عوامل القوّة وإنهاك الطاقات كمقدمة لاحداث مشاريع مستدامة للإختلال والإحتلال والهيمنة والنفوذ والسيطرة على (الأقدار والثروات) واعادة تشكيل الدول والجماعات والمستقبل، ولعل ابرز ما طُرِحَ ونُفّذَ هو «اتفاقية سايكس-بيكو»، ومايجري تنفيذه حالياً «خارطة حدود الدم « و «الشرق الاوسط الجديد» وغيرها، من الهندسات (الصلبة) والهندسات (الناعمة)، ومن خلال ادوات مَحَليّة وخارجيّة؛ ظاهرةً ومستترةً.يعلمنا التاريخ أن تقسيم الدول على أسس طائفيةٍ أو عرقيةٍ أو فئويةٍ ليس حلاً للأزمات السياسية أو الاجتماعية، بل هو وصفة مؤكدة للمزيد من الصراعات والحروب، فتجربة التقسيم التي شهدتها فلسطين عام 1948، وما تبعها من نكبات ومعاناة مستمرة، تؤكد أن التمزق لا يولد سوى المزيد من الفوضى، وكما حدث في السودان والصومال وغيرها من الدول، والسيناريو ذاته يُعاد طرحه بأشكال مختلفة في العراق وسوريا ولبنان (حالياً) ولجميع المنطقة (مستقبلياً)، حيث يُروَّج لخيار الأقاليم الطائفية أو الكونفدرالية باعتبارها حلولًا سحرية للأزمات الراهنة، لكن الحقيقة أن هذه الخيارات، بعيدًا عن أي دعوات للتنظيم أو الإدارة المحلية، تحمل في طياتها مخاطر هائلة ستقود إلى تفكيك الدولة الوطنية وفقدان سيادتها.
الأقلمة الطائفية، التي تبرز كأحد الخيارات المطروحة من قبل دوائِر التآمر الانتهازي أو أقطاب الغباء الاستراتيجي في دول مثل العراق وسوريا ولبنان، تُصور على أنها وسيلة لتقليل النزاعات من خلال منح الطوائف المختلفة حكمًا ذاتيًا ضمن إطار فيدرالي، لكن هذا النموذج، في واقع الأمر، يعزز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، ويُحوّل الدولة إلى كيانٍ هش مقسم إلى دويلات صغيرة متنافسة، حيث يسعى البعض إلى تحويل البلاد إلى أقاليم قائمة على الانتماء الطائفي أو العنصري البَحت، مما يؤدي إلى تآكل الوحدة الوطنية، ويُمَهّد لأزماتٍ أكبر، وهو عَينُ المُبتَغَيات الصهيونية التي طالما رددوها وما زالوا. أما خيار الكونفدرالية، الذي يُطرح كحل وسط بين الوحدة والتقسيم، فهو لا يقل خطورة، فالكونفدرالية تُضعف الحكومة المركزية إلى حد كبير، حيث تمنح الأقاليم شبه استقلال كامل في إدارة شؤونها، مع الاحتفاظ بحد أدنى من التنسيق في القضايا السيادية، وفي الشرق الأوسط، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية بشكل كبير، مثل هذا الخيار سيجعل الدول أكثر عرضة للتدخلات الخارجية، حيث ستسعى كل قوة إقليمية أو دولية إلى بسط نفوذها على أحد الأقاليم، مما يخلق حالة دائمة من عدم الاستقرار والصراع. التقسيم الكامل، الذي يُطرح أحيانًا كحل نهائي للأزمات، هو الأخطر على الإطلاق، حيث سيؤدي تفكيك الدول إلى كيانات صغيرة إلى صراعات حدودية طويلة الأمد، إذ ستتنازع الدويلات الجديدة على الموارد الطبيعية والأراضي. في سوريا، على سبيل المثال، قد يتحول التقسيم إلى صراع دائم بين الكيانات الجديدة على حقول النفط أو الموانئ أو الأراضي الزراعية. في العراق، ستكون المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسهل نينوى بؤرًا للنزاع المستمر. هذا التقسيم لن يُضعف فقط الدول المعنية، بل سيمتد تأثيره إلى دول الجوار، مما يهدد الاستقرار الإقليمي برمته.
لكن لماذا تُدفع دول الشرق الأوسط نحو هذه الخيارات؟ الجواب يكمن في أن هذه السيناريوهات تخدم مصالح القوى الكبرى التي تسعى إلى ضمان سيطرتها على المنطقة. تقسيم الدول يُضعف قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة، ويجعلها أكثر اعتمادًا على الدعم الخارجي. كما أن الدول الصغيرة والهشة تُسهل من عمليات استغلال الموارد وفرض الإملاءات السياسية، اما القوى الإقليمية الطامحة للنفوذ تجد أيضًا في هذه السيناريوهات فرصة لتعزيز هيمنتها على أجزاء من الدول المجاورة، مما يزيد من حالة الفوضى والتنافس الإقليمي.في مواجهة هذه المخاطر، يصبح من الضروري البحث عن نُهُجٍ أكثر استدامة تحقق الاستقرار والتنمية دون التضحية بوحدة الدول وسيادتها.
النَهْجُ الأولُ والأهم هو تعزيز مفهوم الدولة الوطنية الجامعة، التي تقوم على أساس المواطنة المتساوية بين جميع أطيافِها، وهذه الرؤية تتطلب إصلاحات سياسية واجتماعية عميقة تهدف إلى القضاء على التهميش والإقصاء، وتعزيز المشاركة السياسية لكل المجموعات دون تمييز، ففي العراق وسوريا ولبنان، يمكن أن تُشكّل الهوية الوطنية الجامعة درعًا ضد محاولات التقسيم إذا تم تعزيزها عبر التعليم والإعلام والمبادرات الوطنية.النَهْجُ الثاني هو التركيز على التنمية الاقتصادية المتوازنة، التي تُقلل من مشاعر التهميش وتُعزز من الوحدة الوطنية، فدول الشرق الأوسط تمتلك موارد طبيعية وبشرية هائلة، لكن سوء الإدارة والفساد والتدخلات الخارجية أدت إلى تفاقم الفقر والبطالة. الاستثمار في التنمية المتوازنة يمكن أن يُعيد توزيع الثروات بشكل عادل، مما يُقلل من النَزَعاتِ الانفصالية.
النَهَجُ الثالث هو تعزيز التعاون الإقليمي بين دول الشرق الأوسط، بدلًا من السعي إلى تقسيمها، فالتكامل الاقتصادي والسياسي بين دول المنطقة يمكن أن يُحقق فوائد مشتركة لجميع الأطراف، ويُقلل من التوترات والصراعات، وهذا التكامل يمكن أن يبدأ بمشاريع تنموية مشتركة في مجالات مثل الطاقة والنقل والتجارة، ليُؤسس لاحقًا لمنظومة إقليمية تُحقق الأمن والاستقرار.
في النهاية، تقسيم الشرق الأوسط ليس حَلّاً، بل كارثة تُهدد بإضعاف الجميع. الحفاظ على وحدة الدول وتعزيز التعاون الإقليمي هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار والتنمية، والشرق الأوسط يمتلك كل المقومات ليكون منطقة قوية ومزدهرة، لكن ذلك يتطلب رؤية وطنية وإقليمية مشتركة تُدرك أن قوة الكل تكمن في وحدته، وأن تقسيمه لن يخدم سوى أعدائه. تقسيمُ البَعضِ هو إضعافٌ للكل، وتَقسيمٌ مؤجَّلٌ للكُل، والوحدة هي الطريق إلى المستقبل الأفضل، فَهَلْ تَعي شعوبُنا ذلك، وَهَل سيتم التعامل بحزمٍ ممن بدأ لإحياء هذه المشاريعِ المُهلِكة.
«مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟»