رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
عوني كرومي.. صنيعة رجال الثقافة والادب والمسرح وثورة مسالمة ضد الحروب


المشاهدات 1318
تاريخ الإضافة 2024/12/07 - 9:40 PM
آخر تحديث 2024/12/26 - 7:42 AM

تأخرت كثيراً في تناول أستاذي ومعلمي وصديقي الراحل  الدكتور عوني كرومي.. الفنان الإنسان الذي يحمل قلب طفل ومشاعر عراقية صادقة .. فنان بوزن، وطن وثقافة ومسرح.. تأخرت كما قلت لأنني لا أستطيع الصمود أمام حنين يجرفني نحوه.. وحتى حينما وقفت أمام قبره في ألمانيا.. كنت جالساً منحنياً لأنني لا أكاد أن أقف أمامه سوى منحنياً..
 

عوني كرومي وكرسيه الهزاز الذي مازال مترنحاً ملطخاً بالحناء والحنين ((تحن اسنيني لسنينك.... لهفة المايك او طينك اوادد كل سحابة اتفوت، واشتاك الشمس عينك)) اجلُسْ عل ستينَ كُرْسيٍّ كُرْسِيِّا ...كُرْسِيَّا. عوني يَجثوُ على ارضِ المسرَحِ تئنُ الأرضُ تحتَهُ لحظةِ نشوتِها يبحثُ عن وطنٍ ليس له حدود وطن من سَماءٍ أشار برشت بإصبعٍ من نسيمٍ: تجدُهُ هُناك حيثُ ينمو كالنخلُ والرطب وتمر البساتين. 
عوني كرومي واحد من المسرحيين العراقيين الكبار القلائل الذين جمعوا بين الدراسة الأكاديمية والتجربة المسرحية العريقة على مدى أكثر من 40عاما. أستاذا ومعلما في عدد من الجامعات العراقية والعربية والألمانية بين الأعوام 1977-1997. وشارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الأعوام 1972 و2002. فكان علامة مميزة لتلك الأنشطة وفاعلا كبيرا بعطائه ورؤاه المسرحية النيِّرة التي كان منها: المركز الدولي للمسرح في براغ وبرلين ومهرجانات المسرح العالمي في ألمانيا وديونيسيوس في روما وسيبوا في رومانيا ودرب الحرير في مول هايم وقرطاج المسرحي في تونس وكان قد شرع بتجربته المسرحية منذ العام 1961 عندما درس الإخراج المسرحي بمعهد الفنون الجميلة ببغداد، وصدرت له عدة مؤلفات بالدراسات المسرحية، ومازال مواظبا ودائبا على خشبة المسرح لم يفارقها حتى رمقه الأخير بالغربة..
عوني كرومي.. صنيعة رجال الثقافة والادب والمسرح.. فهو من الذين جمعوا بين الدراسة والتدريس والتجربة المسرحية لأكثر من أربعين سنة وهو الابن البار  للعمالقة جعفر السعدي وابراهيم جلال وحقي الشبلي وسامي عبد الحميد وبدري حسون فريد والناقد الدكتور علي جواد الطاهر وآخرين. والوفي ليوخيم بنياخ وميلر وماكفارت وبرشت. والصورة المثلى لطالب عاشر جدران محطات دراساته وخشبة المسرح في معهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون الجميلة والمسرح الشعبي العراقي والفن الحديث في بغداد والبصرة وجامعة همبولدت في برلين واليرموك في أربد والمعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق..
تخرج عوني كرومي من كلية الفنون الجميلة قسم المسرح عام 1970 وبعد ان فرض تفوقه وأعماله التي تشهد له بجديتها لكونها تثير المهتمين فتؤهله كي يكون أحد أفراد البعثة لدراسة المسرح في ألمانيا فيغادر العراق بعد أن تربى في فضاء المسرح الشعبي وأحضان أستاذه جعفر السعدي. أذ كان كرومي متعبدا في محراب مسرحه.. فهو المرتاد كل مساء لغرض خزينه الابداعي وأفكاره وهناك يكمل دراسته المسرحية العليا في جامعة (همبولدت) الالمانية ويحصل على الماجستير (علوم مسرحية) عام 1972 فالدكتوراه في نفس الجامعة ونفس الاختصاص. بعد أن كان خزينه الفكري مسافرا معه.. والذي تمثل بأساتذته المسرحيين ـ شيللرـ غوته ـ ماكس راينهاردت ـ برتولد بريخت.. ونتاجه الذي قدمه وكتبه ومشاريعه الفكرية …
وفي عام 1977 يعود كرومي الى بغداد وهو معبأ بالمسرح البريشتي والتغريب. يعود حالما بثورته التجديدية. فيشرع بتقديم أعماله على قاعات أكاديمية الفنون الجميلة نظرية وتطبيقا أذ كان في الصباح أستاذا منظرا وفي المساء مخرجا وممثلا وقد أخرج أكثر من سبعين عملا مغترف بعضها من التراث منها: (رثاء أورـ مأساة تموز ـ تساؤلات مسرحية ـ القائل لا.. القائل نعم ـ تداخلات الفرح والحزن ـ فوق رصيف الرفض ـ الغائب ـ الانسة جولي. الانسان الطيب في ستسوان ـ ترنيمة الكرسي الهزاز المسيح يصلب من جديد ـ السيد والعبد ـ مسافر الليل..) فكانت محطات شاهدة على أبداع عقل لا يعرف النضوب.. وأنامل لأتعرف السكون.. فمطبوعاته (طرق تدريس التمثيل ـ فن التمثيل ـ المسرح المدرسي ـ المسرح الالماني المعاصر ـ غوته ـ فأوست..) شاهد على ذلك.. 
عوني كرومي ثورة وثروة مسرحية عارمة مسالمة حملت شعلة السلام ورفعت يدها احتجاجا ضد الحروب. لأنها ترى الحرب دمار للذات والانسانية والوجود البشري وكل شيء جميل والشاهد (ترنيمة الكرسي الهزاز) في الثمانينات. لذا كان مسرحه لا يكتفي بتفسير العالم، بل يعمل على تغييره وهذا سر عظمة أعماله. فكان عوني كرومي يرى أن المختبر المسرحي تجربة يحصل عليها المشارك من خلال تفاعله الحر مع مجموعة العمل فلا يخضع لتقاليد وعادات أكاديمية.. أنما هو بحث دائم ومتواصل ووعي كامل بمعرفة أدوات الفنان الذاتية والجسدية، والذهنية، والصوتية والفكرية. ومسرح الستين كرسي دليل تطبيقي لمختبره المسرحي..
وعلى مدى اربعة عقود من الزمن العراقي الصعب.. أنتج عوني حصيلة تاريخه المبدع وكان خلالها يبحث عن اسرار حياتنا العراقية الخصبة التي لا نهاية لها.. ويحاول ان يجد حلولا لمشكلات معقدة وكبيرة أكبر منّا جميعا.. كان في اعماله ناقدا رائعا وقد اسس مذهبه الفني واسلوبه الانساني ومنهجه الفلسفي من خلال اعماله التي اولاها الدارسون والنقاد اهمية كبرى.. كانت اعماله تبشر بالقيم والمثل الانسانية فخلق ما اسماه البعض بـ ” مسرح الحياة “. كانت تطلعاته وخصوصياته الفلسفية قد بدأت منذ شبابه المبكر بنزوعه الى التجريب، وأصدر بيانا وكان دون العشرين من العمر يدعو فيه الى التجديد والتعاطي مع المناهج والرؤى الحديثة في الفن المسرحي، مما أثر عليه بعض اساتذته الذين كانوا يدعون الى التجديد على طريقتهم وفي مقدمتهم الفنان ابراهيم جلال.
كان عوني يرى في المسرح عالما مدهشا لا تعيش فيه الريبة ولا تتخلله التشنجات ولا يمارس فيه التسطيح ولا يغدو مكانا للضجر او يضج بالتهكمات.. هو مسرح لا يلهو فيه الانسان، او مسرحا يزاول فيه الممثلون كل التفاهات.. انه يريده مسرحا ممتعا بكل ما تعنيه الكلمة من معان.. نعم مسرح يرتقي بالمشاعر الانسانية ويصل بالإنسان الى اعلى درجات الاحساس والالم والفرح والانفعالات الحية.. انه يريده مسرحا يجيب عن أسئلة الحرية المتعددة بشقيها الذاتي والموضوعي.. الفردي والاجتماعي بكل ما يمنحه العالم للمسرح وابنائه من حرية الفن واستقلاليته التي تشكل في زمننا المعاصر سؤالا تصعب الإجابة عليه.
أخرج  الدكتور عوني كرومي أكثر من سبعين عملاً مسرحياً هي أقمر وأنجم في عالم المسرح العراقي وإبداعه المشرق منها النجوم اللوامع مسرحيات: فطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، كاليكولا، غاليليو غاليليو، كريولانس، مأساة تموز، القائل نعم القائل لا، تداخلات الفرح والحزن، فوق رصيف الرفض، الغائب، حكاية لأطفالنا الأعزاء، كشخة ونفخة، الإنسان الأزرق، أنتيجونا الأخرس، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، عند الصلب، في المحطة، الشريط الأخير، المساء الأخير، الطائر الأزرق ،أنتيجونا، فاطمة، السيد والعبد. ونال العديد من الجوائز العالمية في مهرجانات بغداد، القاهرة، قرطاج، برلين. كما حصل على لقب (وسيط الثقافات) من مركز برشت في برلين. وها هو بعد هذا السِفر الكبير يغادرنا في منفاه بلا سابق إنذار مبكرا يرحل مبكرا يودعنا وهو في قمة عطائه.. كان وما يزال العمل المسرحي بالنسبة لي فعل حياة وبقاء وتطور وسؤال دائم عن الكينونة والوجود وعملية أبداع الذات إلى جانب كونه رحلة ومغامرة في المستقبل بهدف الوصول الى الحقيقة وايجاد أجوبة لأسئلة العصر الراهن. كما أن العرض المسرحي حوار دائم مع النص والسينوغرافيا والممثل والمشاهد لأجل تحقيق الدهشة والانشداد بدل الارتياب والشك، الإعجاب والاستمتاع محل الاستهانة والضجر والتهكم وصولا الى شكل يحقق المتعة الفنية الراقية عبر الأداء المتميز والعطاء الإبداعي الخلاق للممثل الذي يرفد ثقافة المشاهد بما هو جاد وممتع ونافع، مرتقيا بمشاعره وانفعالاته وأسئلة الحرية المتعددة، ما هو ذاتي ومنها ما هو اجتماعي. يبقى ديدن العرض المسرحي المقدم الى جانب حرية الفن واستقلاليته التي تشكل في زمننا المعاصر سؤالا تصعب الإجابة عليه”.
ولد عوني كرومي في مدينة الموصل عام 1945، ورحل وهو في غربته الصعبة ببرلين عام 2006.. انه المسرحي العراقي المحترف والموهوب معا.. انه خريج معهد الفنون الجميلة، قسم التمثيل والإخراج ببغداد عام1965، ثم انخرط للاستزادة في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وتخرج عام1969. سافر الى المانيا لإكمال دراسته، وحصل على الماجستير في العلوم المسرحية من معهد العلوم المسرحية بجامعة همبولدت – برلين- ألمانيا عام1972.
حصل على شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه وفي المعهد والجامعة نفسهما ببرلين في ألمانيا عام1976. وغدا استاذا في تخصصه، بتدريسه ذلك في عدد من الجامعات العراقية والعربية والألمانية بين الأعوام 1997-1977. ولقد شارك بفعالية ومهارة في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الأعوام 1972 و2002. أخرج أكثر من سبعين عملاً مسرحياً ناجحا ورائعا جذب اليه العالم، واشتهر بخصوصيات اخراج مسرحيات أثارت راي الجميع (الكاتب ـ الممثل ـ المخرج ـ الانسان) اهتمام الكثير وتجلى هذا في ترجمة أعماله وما كتب عنها من دراسات ومقالات نقدية.. أضافة الى تقديم مسرحياته في مختلف البلدان وبأغلب اللغات (النرويج ـ السويد ـ الدنمارك ـ المانيا ـ هولندا ـ بلجيكا..) أن شكل المسرح عنده نابع من ضرورات فكرية واجتماعية هي وليدة التغيرات التي يعيشها الانسان أذ قال مرة (أن وظيفة المسرح جعل الانسان يفكر بكينونته كي يمتلك القدرة على الحوار من أجل الوصول الى الحقيقة بالاقتناع ويتخذ موقفا مما يعرف فيتحول الى طاقة أبداعية مفكرة. منتجة.. لذا فهو يبحث في أعماله دائما من أجل ايجاد انسان يفكر وينتج ويسأل.. لكون المسرح عنده وسيلة أنعاش عقلي تنويري يجب أن يحطم أي أيهام بالواقع حتى تكون لدى المشاهد قدرة على النقد والتغيير.. 
لكون عوني كرومي من عائلة عمالية حيث كان والده أحد العاملين في مجال الطباعة. وتعلم عوني من والده ان الحياة مسرح كبير وكل البشر فيه مجرد ممثلين تعلموا بالسليقة احترافهم.. كانت بيئة الموصل في الخمسينيات بيئة ثقافة وادب، ومجالس، وصحافة، وسياسة.. بيئة مدنية محترمة تجمع ابناء المدينة الحقيقيين بكل اساليبهم الحضارية وتقاليدهم واعرافهم الاجتماعية الاصيلة..  ثم انتقل عوني الى بغداد وهو شاب ليتعلم كثيرا من العاصمة وهي تخوض تغييرا واسعا.. لم يعرف عوني الهدوء ابدا، بل انه لم يعرف غير العمل والحركة من دون أي توقف طوال حياته.. سريع الاندماج اجتماعي الطبع نظيف السريرة.. فكها وحاضر البديهة ينتقل بسرعة البرق من مكان الى مكان.. له تواضعه الشديد اذ وجدته لا يمّيز نفسه ابدا عن كل الممثلين في مسرحه.. يداوم معهم ويأكل معهم ويأخذ قيلولته على الارض معهم.. لا يترّفع ولا يتمنّع ولا يتنّطع.. في داخله طفل كبير جدا.. زار وعاش في بلدان عدة منها: المانيا والقاهرة والامارات والكويت وقطر، وعمان، والاردن، وغيرها. وهو فضلا عن كونه مخرجا مسرحيا، فهو باحث قدير، ودارس متعمق ومؤلف ومترجم.. وقد أثرى بأعماله الثقافة العربية وخلد للعراق اروع الاعمال.
من الأمور التي اشتغل عليها الدكتور عوني كرومي في المسرح العراقي خلال السنوات الثلاثين الأخيرة هي الحداثة، ونعني بالحداثة في تجربته هنا اعتماده الصيغ الجمالية التي يتم بها اختيار المسرحيات التي تنسجم وطموح فنان درس في ألمانيا وتعلم من مدارس الفن الحديثة ورغب أن يكون طليعيا في مجتمع يبحث بأدواته الخاصة عن أشكال فنية تعبيرية يقدم فيها صورة عما يفكر فيه. فكانت أعماله كلها تصب في هذا الاتجاه حيث تعني الحداثة عنده تجديد الرؤية الفكرية لما يجري واقعياً بعد أن ترافقها رؤية فلسفية وموقف حداثي من تجديد الخطاب الثقافي بما يتلاءم وسياقات البنية الاجتماعية.  وقد كانت تجاربه المسرحية قائمة على تفسيرات المادية الجدلية وبوضوح منهجي عندما يربط بين العرض والتاريخ. مسرحية الإنسان الطيب مثلاً، أن تحديث التقنية الفنية التي ينفذ بها خطابه المسرحي الحديث وهذه التقنية واحدة من أهم مرتكزات الحداثة في تجربته، وكان يسعى لتنفيذ هذه التقنيات بعمل ميداني يؤسس هو لمفردات العرض باستخدام عاملين لهم خبرة ميدانية في ذلك، ووجد في ألمانيا الكثير ممن قدم له هذه التقنيات كجزء من سعيه لمرافقة عروضه التجريبية برؤية تقنية حديثة. وقد عمل كرومي مع مؤلفين كثيرين فكان يعيد صياغة فقرات وتراكيب مشاهد بناء على تفهمه للكيفية التي تتم بها سياقات الفكرة، حدث ذلك مع نصوص قديمة مثل رثاء اور ومع نصوص برشت مثل كوريلانوس والإنسان الطيب حيث نظم سياقات العرض مع ذائقة وهموم المشاهد العراقي وعمل مع الكاتب محي الدين زنكنة في صراخ الصمت، وعمل مع أشعار الشاعر الراحل عريان السيد خلف، ونص فاروق محمد في الترنيمة، وعمل الكثير مع مسرحيات شعبية منها بير وشناشيل على وجه الخصوص. كانت الغاية من التحديث هو تقريب مفاهيم النصوص التي تكتب وفق سياقات قديمة لحاجات المسرح الحديث، خاصة فيما نطلق عليه العرض المسرحي والقارئ المؤلف والمشاهد المشارك وكلها مفردات برشتيه.  لقد حاول (كرومي) تطبيق أفكاره في الكتابة والاخراج والتمثيل.. فكان يعتبر كل جزء مستقلا بذاته ويمثل لذاته.. لذا كانت تجربته فذة غنية تحاول التوفيق بين الشكل والمضمون الاجتماعي.. وبهذا أصبح من المشاركين في تشكيل رؤية صحيحة لفكرة المسرح وشكله. على أن تخدم هذه الرؤية في التعبير عن احتياجات الانسان المعاصر.. فأعماله التي يختارها كانت للإنسان ومن الانسان.. فهي ذاته وقلقه ووجوده وطموحه وما يدور في ذهنه من أسئلة.. ورائعته (غاليليو غاليلي) تقدم خلاصة وعيه ورؤاه.. اذ الصراع بين قوة السلطة وحقيقة العالم.. وفي كتابه (عوني كرومي والمسرح الشعبي) قال فيه الناقد الراحل الكبير الدكتور علي جواد الطاهر وبقراءة نقدية عميقة ورصينة عن أعماله (غاليليو وغاليليه ، كوريولان ، كشخة ونفخة ، الانسان الطيب ، ترنيمة الكرسي الهزاز ، بير وشناشيل ، رقصة الأقنعة)راصداً تجربته في الإخراج المسرحي ، وواصفاً اداءه بـ (الرُقي) في شهادة كبيرة هو أهل لها. 
لقد كانت” مسرحية العبد والسيد” من آخر اعماله، وهي نص سومري قديم حيث وجد فيه ثيمة معاصرة تتحدث عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم مترجما اياها من عصر كلاسيكي قديم الى خصب الحداثة. انه يعشق التعامل مع النص التراثي – الاسطوري القديم. لقد كانت اطروحته عن” رثاء أور” لمؤلف سومري مجهول. وهو لا يتعامل أبدا مع الاعمال السهلة التي تقدم افكارها بأسلوب مباشر، اذ ان ثقافته الفنية قد تأسست على المزاوجة بين معرفة النص وتطبيقه على خشبة مسرح فعال. وكان الفنان المخلص الذي يشعر ان مسؤوليته أكبر من ان يملأ فراغ المتفرج، بل يغدو له معلما بطريقة غير مباشرة. 
يكتب لاحد الأصدقاء في رسالة عبرت عن العراق المستلب في زمن الطاغية..»يسألونك لم لا تعود لوطنك وتطفئ الحنين- الخوف والسلاح - الخوف يملأ الأرض والسماء من نقطة الحدود إلى بيتك المهجور والسلاح يملكه رجال الأمن والجيش وبعض الجحوش. - ولا حقك لك في كل شيء حتى الخبز والأمن والاطمئنان. ممنوع أن تكتب، أن تقرأ، وأن تفكر، وأن تعلن رأيك في الحرب والسلم...الموت، المجاني ينتظرك. - البيت مهجور، ينتظر من يطرق بابه، الكتب، الدفاتر الأوراق، اللوحات تنتظر من يوقظ التراب الذي يعشعش فوقها زوايا البيت وأركانه فقدت حاسة السمع، والجدران التي اختزقتها الموسيقى وصور ألاحبة تنتظر من يمسح عنها غبار النسيان. جف الدهن في الأقفال، وحل الزنجار، ولم يبق سوى صوت أزيز هواء عفن للسجون والمعتقلات والقبور والجثث تبعثر الأوراق اليابسة في حديقة البيت، أكتب هذا لأنني أدرك أن الدموع الحقيقية الحزينة تأتي دائما من المنفى.» وقبل ان يغادر العراق مرغما، عانى كثيرا من الظروف الصعبة وهيمنة الثقافة الواحدة.. ورفض إخراج نص لأحد رجالات الدولة بأمر من قيادة ثقافية كانت تترصده.. فكان ان حورب حربا لا هوادة فيها عندما اطفئت انوار القاعة عند عرض احدى مسرحياته، كما انه حوصر في الدرس الأكاديمي في جامعة بغداد وقلل من نشاطه الذي لا ينضب، حتى منعوه بالحصول على التقاعد، الامر الذي اضطره إلى مغادرة العراق مغتربا مهموما للعمل ببلدان ومناحي  مختلفة مخرجا واستاذا.


تابعنا على
تصميم وتطوير