رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
في العراق.. ضريبة أن تكون مستقلاً سياسياً


المشاهدات 1718
تاريخ الإضافة 2024/11/27 - 11:41 PM
آخر تحديث 2024/12/08 - 5:34 AM

 قبل يومين أثارني تصريح أحد زعماء الاحزاب السياسية الناشئة في العراق بقوله “ أن موضوع الاستقلال السياسي هو (كذبة!) ولايوجد مستقل سياسي مادام يحمل رأياً سياسياً ”، وهو ما أعتَبِرُهُ إما نوع من التجديف الاكاديمي أو عدم الموضوعية في استخدام المصطلحات ودلالاتها، والأغرب من ذلك كلّه هو توافق الاغلبية الساحقة من الحزبيين على المقولة أعلاه ليكشفوا عن عُقَدٍ نفسيّة معروفة؛ بالاسقاط والانكار والحساسية المفرطة. 

يمثل الاستقلال السياسي تحدياً معقداً في المجتمعات التي تشهد تحولات سياسية مستمرة وضغوطاً من مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية. العراق، بتاريخه المعقد وصراعاته الداخلية، يوفر مثالاً بارزاً على الصعوبات التي يواجهها الأفراد الذين يختارون الوقوف على الحياد السياسي الموضوعي أو التمسك باستقلالهم الفكري، إذ يُواجه المستقلون تحديات عديدة؛ حيثُ غالباً ما يُعتبرون مشكوكاً في ولائهم أو قد يُواجهون تهميشاً وعزلاً من قِبَل الأطراف السياسية المهيمنة. لذا، يتعرض المستقلون لضريبة شخصية ومهنية واجتماعية تتراوح بين الضغط النفسي والتهميش الاجتماعي والاقتصاد الوظيفي وصولاً إلى الخطر المباشر على حياتهم.
ماهية الاستقلال السياسي في السياق العراقي:
ان مقاربة مفهوم الاستقلال السياسي في العراق اليوم تعني أن يحتفظ الفرد بمسافة من جميع الأحزاب والجماعات السياسية دون أن يلتزم بأجندات أو أيديولوجيات محددة، بل يختار تقييم الأمور السياسية بموضوعية وفقاً لقناعاته الشخصية. ومع ذلك، وحيث تتشابك الهويات السياسية مع الطائفية والعرقية، يصبح الاستقلال السياسي موقفاً نادراً ومحفوفاً بالتحديات، حيث يُنظر إلى الشخص المستقل في الغالب على أنه “خارج عن السياق” وقد يُتهم بالانتهازية أو التهرب من المسؤولية الاجتماعية تجاه جماعته أو مجتمعه.
التحديات التي تواجه المستقلين سياسياً في العراق
1. الضغوط المجتمعية والطائفية، حيث
يعيش العراق في بيئة سياسية واجتماعية طائفية وعرقية معقدة؛ حيث يُنظر إلى الفرد المستقل كحالة استثنائية يصعب فهمها أو تقبلها. تواجه هذه الفئة ضغطاً كبيراً للتوافق مع الانتماءات الطائفية أو العرقية أو القبلية، وغالباً ما يتم اتهام المستقلين بأنهم لا يهتمون بمصالح مجتمعهم أو طائفتهم، مما يؤدي إلى عزلهم اجتماعياً ومهنياً.
2. غياب التمثيل السياسي الحقيقي، إذ
يعاني العراق من نظام سياسي يعتمد على المحاصصة والتوافقات الحزبية، حيث يتم توزيع المناصب الحكومية والمكاسب بناءً على الانتماءات الحزبية والطائفية. في هذا السياق، يجد المستقلون صعوبة في الحصول على تمثيل سياسي حقيقي أو المشاركة في صنع القرار، لأنهم خارج دوائر الولاء الحزبي التقليدية التي تُعطي الأولوية لمن يدعم أجنداتها بشكل مطلق.
3. التهميش في المؤسسات العامة والخاصة، كون المستقلين ما زالوا يُعانون من تحديات في الوصول إلى الفرص الوظيفية والمهنية، لا سيما في القطاعات الحكومية التي تسيطر عليها الأحزاب. فغياب الولاء الحزبي أو الطائفي يُعتبر عقبة أمام المستقلين، إذ يُفضّل التوظيف وفقاً للانتماءات السياسية. ويصبح التقدم في المناصب والتدرج الوظيفي أمراً صعباً دون دعم أو حماية من جهة حزبية.
4. الخطر على السلامة الشخصية، حيث أنه في حالات كثيرة، يعتبر اختيار الحياد السياسي في العراق موقفاً محفوفاً بالمخاطر من التعرّض للتهديدات والاعتداءات من جهات سياسية متعددة قد ترى في استقلاله تهديداً لمصالحها أو نفوذها. وتُشير الدراسات إلى أن بعض المستقلين تعرضوا للعنف الجسدي أو التهديدات، خاصةً في الأوقات التي تشهد توترات سياسية أو انقسامات حادة بين الكتل المختلفة (Smith, 2022).
ضريبة الاستقلال على المستوى النفسي والاجتماعي
يواجه المستقلون ضغوطاً نفسية متزايدة نتيجة لتوتراتهم المستمرة مع البيئة المحيطة، فهم يجدون أنفسهم غالباً معزولين عن المجتمع وغير مدعومين من أي جهة سياسية، مما يؤدي إلى شعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية. كما أن قلة الدعم والقبول الاجتماعي قد تؤدي إلى أزمة هوية شخصية، حيث يتساءل المستقل عن مدى صحة موقفه وقدرته على الصمود أمام هذا التهميش والتشكيك المستمر.
وتشير بعض الأبحاث إلى أن هذا النوع من العزلة يمكن أن يؤدي إلى آثار سلبية على الصحة النفسية، بما في ذلك القلق والاكتئاب (Al-Khalidi, 2023). هذه المعاناة النفسية هي جزء من “ضريبة الاستقلال”، حيث يضطر المستقلون للتعايش مع هذه الضغوط دون أن يتمكنوا من اللجوء إلى شبكة دعم سياسي أو مجتمعي قوية.
الاستقلال السياسي في المجال الأكاديمي والمهني
الضغوط التي يتعرض لها المستقلون لا تقتصر على المجال السياسي فقط، بل تمتد إلى المجال الأكاديمي والمهني. 
فغالباً ما يتعرض الأكاديميون والمهنيون الذين يختارون عدم الانتماء السياسي لمخاطر في حياتهم المهنية، حيث يمكن أن يتم استبعادهم من بعض المشاريع أو المراكز البحثية التي تتطلب تأييداً حزبياً. 
وتشير بعض الدراسات إلى أن الاستقلال السياسي في العراق يؤثر على فرص الباحثين في نشر أبحاثهم أو المشاركة في الفعاليات الأكاديمية التي تديرها جهات حزبية (Ali, 2024).
الرؤية المستقبلية: هل يمكن تحسين وضع المستقلين في العراق؟
يُعتبر تحسين وضع المستقلين السياسيين في العراق تحدياً صعباً، لكنه ليس مستحيلاً. يمكن البدء بخطوات نحو بيئة سياسية أكثر انفتاحاً وتسامحاً، حيث يتم تقدير التنوع الفكري والسياسي، بما يُتيح للمستقلين مساحة أكبر للمشاركة دون خوف من التهميش أو التهديد. ومن هنا، يُمكن اتخاذ عدد من الإجراءات لتحسين وضع المستقلين، ومنها:
‌أ. تعزيز المجتمع المدني: يمثل المجتمع المدني منصة مهمة للمستقلين للتعبير عن آرائهم ومواقفهم دون الخضوع للولاءات الحزبية. 
دعم مؤسسات المجتمع المدني الرصينة وتشجيعها على لعب دور أكبر في الحوار الوطني يمكن أن يخلق بيئة أكثر شمولية وتنوعاً.
‌ب. إصلاح النظام الانتخابي: يساعد تطوير نظام انتخابي يُمكِّن المستقلين من الحصول على فرص أكبر للتمثيل السياسي في تخفيف بعض التحديات التي يواجهونها، ومن هذه الإصلاحات تتمثل في تمكين الترشيحات الفردية والحد من المحاصصة الطائفية والحزبية.
‌ج. التمكين الإعلامي: تحتاج وسائل الإعلام إلى تبني نهج محايد ومهني يُمكِّن المستقلين من التعبير عن آرائهم ونقل مواقفهم للجمهور دون الخضوع لضغوط من الأطراف السياسية المختلفة. يمكن لهذا النوع من الإعلام أن يساهم في إعادة تشكيل الصورة النمطية للمستقلين واعتبارهم عناصر إيجابية في المجتمع السياسي العراقي.
رغم التحديات الكثيرة والضغوط الهائلة التي يواجهها المستقلون سياسياً في العراق، إلا أن وجودهم يبقى ضرورياً لتوازن المشهد السياسي وتقديم رؤى بديلة عن الحلول والأفكار السائدة، حيث يمثل المستقلون جزءاً من المجتمع الذي يسعى للتغيير خارج الأطر التقليدية، ويمكن أن يكون لهم دور كبير في بناء مستقبل العراق في حال أتيحت لهم البيئة المناسبة للتعبير والمشاركة. 
فالاستقلال السياسي لا يجب أن يكون مرادفاً للعزلة أو الخطر، بل يُمكن أن يكون علامة على النضج السياسي والقدرة على التحليل الموضوعي، وهو ما يحتاجه العراق ليواجه تحدياته الحالية والمستقبلية.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير