غزة/ متابعة الزوراء:
بفرحة غامرة التقطت الفلسطينية الثلاثينية ريهان شراب صنارة وكرات من الصوف الملوّن من تحت أنقاض منزلها المدمر في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، كملاذ أخير لمواجهة برد الشتاء.
ساعات طويلة استغرقتها ريهان (30 عاما) وهي ترفع الأنقاض حجر تلو الحجر، وتطيل النظر تحتها وكأنها تنقب عن “كنز ثمين”، حتى عثرت على صنارتها وكرات الصوف، حيث تمتهن “فن الكروشيه”، وصناعة الملابس الشتوية الثقيلة بالغزل اليدوي.
“فعلا وجدت كنزا” تقول ريهان للجزيرة نت، وهي منشغلة في غزل قطع من الملابس الشتوية لطفليها راكان (11 عاما) وتوتو (8 أعوام)، ونزحت بهما بالملابس التي تستر أجسادهم فقط، من منزل أسرتها الذي حوله الاحتلال وعشرات المنازل المجاورة له إلى أكوام من الركام، إبان الاجتياح البري للمدينة أواخر العام الماضي.
بدائل طارئة
ولجأت ريهان إلى التنقيب عن أدوات الغزل وحياكة الصوف تحت أنقاض منزلها المدمر بعدما أعياها البحث في الأسواق عن بديل لها ولم تجد، فضلا عن عدم توفر ملابس شتوية لتدفئة جسدي طفليها مع حلول فصل الشتاء.
ولا تتوفر الملابس الشتوية في أسواق مدينة خان يونس ومناطق جنوب القطاع، جراء منع الاحتلال إدخالها من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، منذ اندلاع الحرب عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
وتقول ريهان إن الملابس شحيحة في الأسواق وأسعارها باهظة للغاية، ولا تناسب غالبية الناس ممن أنهكتهم الحرب وأفقدتهم مصادر رزقهم ومدخراتهم.
وتنحدر هذه المرأة من عائلة شهيرة في جنوب القطاع، وفقدت عددا من أقاربها شهداء، إضافة إلى تدمير واسع في منازل العائلة وأراضيها الزراعية، وتنظر للنزوح كأكبر مآسي الحرب، حيث تفتقد الخصوصية والأمان والقدرة على تربية طفليها وتوفير احتياجاتهما الضرورية.
وتقول “خسرنا الكثير خلال هذه الحرب المسعورة (..) إنها تجربة قاسية ومريرة، فقدنا خلالها آلاف الأرواح، ودمرت منازلنا وممتلكاتنا، والحصار يخنقنا حتى إننا نعاني من أجل توفير اللقمة التي تسد جوع أطفالنا، والملابس التي تغطي أجسادنا وأجسادهم”.
خيارات حرب
وقبل اندلاع الحرب كانت ريهان تمتهن حياكة الصوف وصناعة أصناف متنوعة من الملبوسات الشتوية، وتروجها بالتسويق الإلكتروني من خلال صفحة خاصة أنشأتها على منصات التواصل الاجتماعي.
وتواجه ريهان أزمة في شح الصوف بالأسواق، وتقول إن المتوفر منه جودته رديئة وأسعاره مبالغ فيها، وأضعاف ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب.
وتجبر الحرب الغزيين للبحث عن خيارات ووسائل مبتكرة للتغلب على أزماتهم المركبة التي تعصف بهم، ويبرز من بينها مبادرة “مشغل إبرة وخيط” وأطلقتها النازحة من مشروع بيت لاهيا نداء عيطة، وتقيم حاليا في خيمة بمنطقة مواصي خان يونس بعد محطات نزوح كثيرة.
ويقوم هذا المشغل بإعادة تدوير البطانيات (الأغطية) وتحويلها لسترات وألبسة شتوية، وقد أطلقت نداء (31 عاما) هذا المشروع في يوليو/تموز الماضي، وتقول للجزيرة نت “أدركت أننا مقبلون على أزمة شديدة في فصل الشتاء مع استمرار الاحتلال في منع دخول الملابس الشتوية، وخسارة الناس لملابسهم في بيوتهم التي نزحوا عنها، أو تلك التي تعرضت للقصف والتدمير”.
ولا تهدف نداء من وراء هذا المشغل للربح، وتقول إن هدفه إنساني، ويعمل معها فريق من 12 امرأة و7 رجال، ويتم الاستعانة بهم حسب الحاجة وضغط العمل، وتكتفي بهامش ربح بسيط، من أجل مساعدة أعضاء الفريق على إعالة أسرهم، فيما بينهم متطوعون لا يتقاضون أجرا.
إبرة وخيط
وتعاني نداء من أجل توفير بطانيات ارتفعت أسعارها على نحو غير مسبوق، ويأتيها نازحون ببطانياتهم يطلبون إعادة تدويرها كملابس شتوية لأبنائهم، وتكتفي بأجرة بسيطة نظير ذلك لا تزيد عن 30 شيكلا (أقل من 10 دولارات).
ولا تتقاضى شيئا من حالات أخرى تصف أحوالها المعيشية بالبائسة، وتنجز لها احتياجاتها بالمجان، آخرها امرأة نازحة وزوجها مفقود منذ شهور ولديها 3 أطفال وعاجزة عن توفير ملابس لتدفئتهم، وتقول نداء إن “خيمة المشغل” باتت مقصدا لنساء فتكت بهن الحرب، ولا يجدن ما يسترن به أجساد أطفالهن لتدفئتهم، خاصة خلال ساعات الليل، حيث يشتد البرد في منطقة المواصي الساحلية.
ويعمل فريق “إبرة وخيط” يدويا، بسبب انقطاع الكهرباء كليا عن القطاع منذ اندلاع الحرب، وعدم توفر الوقود لتشغيل وسائل طاقة بديلة، وتقول المتطوعة رهف قديح (21 عاما) للجزيرة نت إن العمل اليدوي شاق، ويستنزف وقتا وجهدا كبيرين.
وتتوفر لدى المشغل ماكينة خياطة وحيدة تعمل بالطاقة الحركية تتولد من دوران دواسات دراجة هوائية متصلة بحزام الماكينة، ويعمل عليها خياط ينجز قطعة الملابس المطلوبة بعد أخذ المقاسات وقص قماش البطانيات يدويا، بحسب رهف.