جباليا/متابعة الزوراء:
في مقاربة تاريخية، ومن عدستي التوثيق والتاريخ، سنتناول مجزرة الطنطورة والتطهير العرقي الذي لحق بهذه القرية، وما يمكن أن يقدمه الإعلام الحديث من مساهمات لحماية تاريخ المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة، مقارنةً بمجازر الهاغاناه ضد الفلسطينيين إبان النكبة الفلسطينية.
ما هي الطنطورة؟ الطنطورة قرية فلسطينية بنيت على أنقاض مدينة أطلق عليها الإغريق والفينيقيون القدماء اسم «دور». تقع هذه القرية على بعد 35 كيلومترًا من مدينة حيفا الساحلية. وقد خُصصت هذه القرية للدولة اليهودية بموجب خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة في عام 1947. تبعًا للمؤرخين تيدي كاتز وإيلان بابيه، فإن هذه القرية تعرضت للتطهير العرقي، الذي نجم عنه إطلاق النار على 200-250 شخصًا من سكان القرية بعد استسلام أهلها في العام 1948، حيث كان عدد سكانها يبلغ 1728 نسمة. دُمّرت القرية بالكامل، ويعتقد بوجود مقبرة جماعية كبيرة حتى اليوم، يبلغ طولها 35 مترًا وعرضها أربعة أمتار، تحتوي على جثث 200 فلسطيني تم قتلهم على مدار يومي 22 و23 مايو/أيار 1948.
أزمة التوثيق والتأريخ والفلسطينيين
لم يُكتب التاريخ الفلسطيني بشكل حقيقي، بل كان معبأً بمجموعة من الأجندات والأيديولوجيات التي ظلمت الحقيقة التي تعرّض لها الفلسطينيون. ورعت دولة الاحتلال الروايات التي تخدم مصالحها وقوميتها، فيما يُعرف بـ state-sponsored narratives أو الروايات المدعومة من الدولة، حيث تحافظ على رواية أن الفلسطينيين غادروا أرضهم بملء إرادتهم. بالإضافة إلى ذلك، تعمل دولة الاحتلال على مفهوم «فقدان الذاكرة»، حيث تؤثر على الذاكرة الجماعية للجمهور الإسرائيلي لإلغاء وإثبات أحداث معينة على حساب أحداث أخرى تخدم سياسات الدولة. يقوم هذا المفهوم على ذاكرة انتقائية تقلل من أهمية بعض الأحداث التاريخية مثل النكبة وتعمل على نسيانها في الخطاب السائد، مما يؤدي إلى الانفصال عن واقع هذه الحقائق وعدم الاعتراف بها. وعلى الرغم من أن الشعب الفلسطيني كان يشكل الأغلبية السكانية في فلسطين التاريخية، إلا أنه غالبًا ما كان يُنظر إليه من عدسة علاقته بالمجتمع اليهودي الأصغر، ما جعله «غير مرئي» إلى حد كبير. تجاهل هذا النهج الجوانب التاريخية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني في السرديات التاريخية، وكان أحد أسباب ضياع الحق التاريخي للفلسطينيين وفردانية قصتهم.
في عام 1999، كتب المؤرخ والأكاديمي تيدي كاتز أطروحته «خروج العرب من القرى الواقعة على سفح جبل الكرمل الجنوبي»، وهي عبارة عن بحث تاريخي دقيق حول أحداث 1948. تناول كاتز في هذا البحث قرية الطنطورة وأدرج فيه شهادات شفهية للناجين من القرية وتسجيلات صوتية. روت هذه الشهادات تفاصيل مروعة تعرض لها سكان القرية نتيجة للحرب الوحشية التي شنتها قوات لواء الإسكندرون التابعة للقوات الإسرائيلية في يومي 22 و23 مايو 1948.
أثبتت هذه التسجيلات والروايات وقوع تطهير عرقي في القرية، حسب ما ورد في كتاب إيلان بابيه «التطهير العرقي في فلسطين». لكن لم تنته القصة على هذا النحو، فقد قامت هجمات أكاديمية ضد تيدي كاتز وإيلان بابيه من قبل مؤرخين آخرين، كان بيني موريس أحدهم، والذي اعتبر أن ما حدث في الطنطورة كان فعلًا ضروريًا في فترة الحرب.
اعتمد الباحثون والأكاديميون والمؤرخون في تأريخ هذه الفترات على التاريخ الشفوي في الغالب، فلم تكن هناك كاميرا توثق ما يحدث للفلسطينيين آنذاك. وكان صوت الناجين هو الصوت الوحيد الباقي، والذي لم يُفحص بعين موضوعية إلا من خلال عدد قليل من المؤرخين، تبعًا لسياسات دولة الاحتلال الصارمة التي عملت على إلغاء البحث الذي قام به كاتز. حيث رفع عدد من الجنود في لواء الإسكندرون قضايا ضد تيدي كاتز أدت لسحب رسالته. وفي ظل هذه التحديات وقع التوثيق الموضوعي لما حدث من مجازر ضد الفلسطينيين في أزمة كبرى ومستمرة.
غزة ومساهمات وسائل الإعلام الحديثة
منذ اليوم الأول للهجوم الوحشي على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأت الكاميرا الشخصية للغزيين بتوثيق القصف العشوائي الذي تعرضت له المدينة وأهلها، ومنشآتها الصحية، والتعليمية والإغاثية. استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي القطاع من شماله إلى جنوبه، وعزلت مناطقه عن بعضها البعض. نزح على إثر ذلك أكثر من مليون شخص نحو جنوب القطاع، وعانى ما تبقى في شمالي غزة من التجويع المفرط وسياسات العقاب الجماعي التي طالت جميع السكان.
عملت قوات الاحتلال على عمليات محو الذاكرة الفلسطينية باستهدافها للمنشآت التاريخية وبيوت المواطنين وحياتهم بالكامل، ليعيش الآلاف من المواطنين في خيم لا تقيهم مطر الشتاء ولا حر الصيف. سجلت التغطية الإعلامية تاريخًا محسوسًا للأحداث الجارية في غزة، ساهمت في تشكيل الرأي العام العالمي تجاه معاناة الفلسطينيين، ما نتج عنه ضغوط مجتمعية دولية من الجامعات والمؤسسات الدولية والمؤيدين للقضية الفلسطينية. وقد أدت هذه الضغوط إلى تغيير وجهات نظر عدد كبير من الناس حول العالم بشأن القضية الفلسطينية وسياسات العقاب الجماعي والإبادة العرقية التي يتعرض لها قطاع غزة.
وكان لمنصات التواصل الاجتماعي دور هام وأساسي في توثيق الأحداث بشكل مباشر، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة للصحفيين أنفسهم في توثيق الأهوال التي طاولت القطاع بالإضافة لمساهمتها في توثيق التجارب الشخصية والمباشرة التي يعبر فيها الأفراد عن معاناتهم وعملت على تداول الصورة والمعلومات بشكل أسرع وأبسط. بنت مواقع التواصل الاجتماعي علاقة مباشرة مع الضحايا ومع آلامهم، وسجلت الانتهاكات التي يواجهها سكان القطاع أولًا بأول. تم توثيق أسماء الضحايا وقصصهم، وشارك الناس حكاياتهم للعالم بالصوت والصورة.
كانت هذه الصور والفيديوهات والتقارير المباشرة التي وثقها الإعلام والأفراد بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي حجر أساس استندت إليه دولة جنوب أفريقيا في مرافعتها ضد دولة الاحتلال في محكمة العدل الدولية. تشكلت هذه الأدلة من روابط إنترنت وتسجيلات صدرت عن خبراء في الأمم المتحدة وحقائق مصورة بالإضافة لأدلة أخرى تم إرسالها بواسطة بريد المحكمة الإلكتروني، وهو أيضاً ما استندت إليه منظمة العفو الدولية في تحقيقات عديدة تدين الاحتلال بارتكاب جرائم حرب في هجماتها ضد قطاع غزة. أحد تقاريرها صادر في 20 أكتوبر 2023، وقد حقق في عدد من الهجمات التي وصفتها المنظمة بغير القانونية والتي ارتكتبها قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد القطاع من بينها غارات عشوائية تسببت في سقوط أعداد كبيرة في صفوف المواطنين وتم التحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب.
(عن/صحيفة العربي الجديد)