رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
الرفاعي يثني على الجيل الجديد


المشاهدات 1191
تاريخ الإضافة 2024/10/27 - 8:16 PM
آخر تحديث 2024/10/30 - 1:39 PM

‏  يشكو بعضُ الآباء من أبنائهم، يشكو كثيرٌ من المعلمين من تلامذتهم، ويشكو أكثرُ أساتذة الجامعات من طلابهم في المراحل المختلفة اليوم. قلما نسمع أو نشاهد أو نقرأ أحاديث وكتابات وبرامج تشيد بالأبناء، وتتفهم نمطَ حياتهم وثقافتهم ورؤيتهم للعالم. تستبدّ الشكوى من الجيل الجديد بنحو خلقت حالةَ تناشر بين جيل الآباء وجيل الأبناء، وأفرزت ظواهرَ مريرة للأمن العائلي والمجتمعي. أعرف آباء وأمهات يشعرون بالخيبة، ويعلنون ندمَهم على الإنجاب، وربما يعلن غيرُ واحد منهم ندمَه على الزواج وبناء العائلة، ويتمنى لو عاش من دون أعباء العائلة والأبناء المرهِقة، ويتحسّر على أحلامه الضائعة. 
أحاول في هذه الأوراق تقديمَ رؤيتي الشخصية، وإن كنت أعرف سلفًا أنها لا تعكس رؤية جيلي، ولم أمنح نفسي الحق بالكلام نيابة عن أيّ إنسان في الأرض. إنها رؤية شخصية لأب لديه عائلة بدأت تتشكل قبل نصف قرن تقريبًا، تتكون هذه العائلة من أم وأب، وابنتين، وأربعة أبناء، أصغرهم تجاوز الثلاثين من عمره، وأكملوا تعليمهم العالي، وتحصَّل بعضهم على الدكتوراه، وآخرون على الماجستير. 
لا أفتقر لمعرفة بالجيل الجديد، أغلب علاقاتي وأحاديثي وحواراتي معهم، هم أقرب إليّ، يعرفون جيدًا قربي لهم وفهمي لنمط حضورهم في العالم الجديد. عملت في التعليم أكثر من أربعين سنة، وكنت وما زلت أقرب لرؤية جيل الأبناء من رؤية جيلي. ذلك ما يدعوني للكتابة عن هذا الجيل، وتثمين منجزه اليوم، وما يعد به غدًا. لا أريد أن أكون محاميًا عن جيل يتميز بالجرأة والوضوح والمباشرة في التعبير عن ذاته وهمومه، وفرض حضوره النوعي بقوة وكثافة في عالمنا اليوم، وسيحضر بشدة غدًا. ولا أريد التحدث نيابة عنهم، هم الأجدر والأخبر بمعرفة تضاريس عالمهم، والأمهر بشرح همومهم وأحلامهم وتطلعاتهم.
 أعرف أن كتابًا بعنوان: «ثناء على الجيل الجديد» لا يخلو من إثارة، وربما يُستفَز قراء أكثرُهم من جيلي يكابدون صراعًا مع الأبناء. أظن أن بعضهم كان يترقب عنوانًا بديلا لهذا الكتاب، وهو: «ثناء على جيل الآباء»، بوصف الآباء يختزنون حكمة وبصيرة وخبرة لا يمتلكها الأبناء، وأن جيلهم الذي أنتمي إليه هو جيل القيم والمثل السامية والمسؤولية والنضال، جيل حملَة الرسالات الأممية والقومية والأصولية، جيلٌ صانع للثورات، ومعلّم للأجيال. 
   أحد أعمق عوامل مأزق السياسة والثقافة والتربية والتعليم في بلادنا، تشبّث الآباء وقبضتهم الحديدية على مواقع قيادة الدول المختلفة وتأسيس الحكومات، وإجهاضهم لأية محاولة تسعى لتمكين الجيل الجديد من قيادة المؤسسات والمنظمات والأحزاب. أكثر الآباء في بلادنا بلغوا العقد الثامن، وبعضهم في العقد التاسع، وغارق بالأمراض المزمنة المنهكة، وهم متشبثون بمواقع قيادية احتكروها عشرات السنين،كما احتكروا السلطة وإدارة السياسة والاقتصاد في الدولة، واستأثروا بالمال والثروة، وتسلطوا على التربية والتعليم والثقافة، وهيمنوا على وسائل الإعلام، وامتلكوا مصادر القوة المادية والرمزية. لو تراجع الآباء خطوة إلى الوراء، وفسحوا الطريق للأبناء في قيادة مؤسسات الدولة والمجتمع وإدارتها، وشاهدوا الحضور الفاعل والمؤثر لوعي الجيل الجديد وخبراتهم، وقدراتهم الاستثنائية على الإصغاء لصوت العصر، لفوجئوا بمبادراتهم الرائدة في الحقول المتنوعة، وقدراتهم في التغلب على عوائق النهوض، وجعل بلادنا تواكب متغيرات الواقع وتصغي لمتطلباته، ووضعوها في آفاق العالم الحديث. 
 لا يحمل هذا الكتاب شعارات تحريضية ولا دعوات تعبوية، إنه محاولة تنشد تفسير ما يميز جيل الأبناء ويجعله متفوقًا على آبائه وأسلافه، ولا ينشد الكتابُ افتعالَ صراع بين الأجيال، بل يحاول الكشف عن نسيج تضاريس الواقع المتشعّبة والمتضادّة الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم. إنها دعوة لتفهم الآباء لعالَم الأبناء، وتفهم الأبناء لعالَم الآباء. ولا يتحقّق ذلك إلا بمواقف شجاعة للآباء والأبناء معًا، يبادر فيها الكلُّ للحوار والتفاهم والتصالح، والعمل الجادّ على خلق شراكة واقعية تُستثمَر فيها الطاقات من أجل بناء عالم أجمل، والسعي لخفض وتيرة عدم الاعتراف والتنابذ والاحتراب والقطيعة بين جيل الآباء والأبناء. 
أوصي الأبناء بتفهم آثار تقدّم العمر، وما يحدثه من متاعب متنوعة للآباء، والمسؤولية الكبيرة للأبناء في رعايتهم. خريف العمر يدعو الآباء للمزيد من الاهتمام بالجسد، وحراسته بعناية صحية وغذائية فائقة، خاصة أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة. بتقدّم العمر تمسي الاحتياجات الروحية والعاطفية للآباء أشدّ، وكأنهم في عواطفهم يعودون إلى مرحلة الطفولة، وتظهر بوضوح لدى أغلبهم حاجة ماسّة للثقة والإخلاص والعطف والرأفة والرفق والحنان والمحبة. ليتفهم الأبناء أن المسؤولية الأخلاقية تفرض عليهم وفاء شيء من دَين الآباء، الذين أمضوا سنوات طويلة في احتضانهم عاطفيًا ورعايتهم وتربيتهم، وتأمين عيشهم، واحتياجات حياتهم المتنوعة. مثلما لا يستغنى الأبناء عن الثقة والحنان والمحبة والتراحم، وينزعجون من إهمال المقربين لهم، ‏لن يستغنى الآباء عن هذه الاحتياجات العميقة في النفس الإنسانية أبدًا، بل تكون حاجتهم أشدّ بكثير من حاجة الأبناء. يؤذي الآباءَ الإهمالُ واللامبالاة، وعدم الوفاء والاكتراث بآلامهم واحتياجاتهم المتنوعة، ويفزعهم عدمُ الاحترام والإهانة وانتهاك الكرامة. يقلق الإنسان وهنُ البدن وضعفه، وافتراس الأمراض بتقدم العمر، وعدم القدرة على العمل الذي يمنح حياةَ الإنسان معنى يعزّز قيمته وتقديره لذاته، ويشعره بقدرته على الاستمرار بالمشاركة في العطاء وجعل حياة غيره أسعد.‏
مستقبل الدول والحكومات والإدارات والمؤسسات المتنوعة يفرض عليها تغلغلُ الذكاءُ الاصطناعي وحضورُه بقوة في كلّ مجالات الحياة، ويدعوها لأن تعيد النظر في فهمها للواقع المركب العميق الملتبس، ونمط وعيها لديناميكية عملية التغيير. مَن يتخلف عن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يغامر بخسارة الحاضر والمستقبل. الأبناء أشدّ تناغما وأبرع من الآباء باستعمال هذا الذكاء، وتوظيفه بمهارة في مجالات الحياة المتنوعة، والتفاعل معه بشغف وتطويره. الواقع يفرض علينا اكتشافَ مواهب الأبناء وتحفيزهم لتنمية مواهبهم وإثرائها. مَن يستثمر مواهب الجيل الجديد يربح الحاضر والمستقبل. لو كان أحد الأبناء لا يمتلك استعدادًا ذهنيًا جيدًا في مجال معرفي معين، وكانت موهبته ضئيلة فيه؛ يمكن أن يكون موهوبًا ويمتلك استعدادًا ذهنيًا حاذقًا في مجال آخر.
 أتفهم جيدًا الظروف القاسية لبعض الأبناء في بلادنا ممن مازالوا يحفرون الصخر بأظفارهم، كي يرتشفوا شيئًا من التعليم الأساسي في مدارس مازالت مبنية من الأكواخ أو الطين، وتفتقر للمرافق الأساسية، ولا تقي من حرّ أو برد. أتفهم ظروف عيشهم المريرة، لأن مسيرة حياتي في الطفولة صنعتها أقدارٌ شقية. أنا ابن فلاح من قرية في جنوب العراق، تفتقر الحياة فيها لأدنى متطلبات العيش الكريم. لا أعرف كيف استمرت حياتي فيها، وكيف أكملت تعليمي في مدرسة بقرية مجاورة، وكيف استطعت العيش في ظروف بالغة القسوة. وإن كنت حتى اليوم أدفع فاتورة قاسية لسوء التغذية الحادّ والحرمان من المواد الأساسية للغذاء في مرحلة الطفولة، وضعف البصر الشديد في احدى عينيّ، إثر جهل الأمهات بتطبيبهنّ البدائي عند إصابتي بالرمد. 
لم أكن مختارًا في الإقامة ببلدان قذفتني فيها أقداري واضطررت للعيش فيها. أجد نفسي كلَّ مرة في بلد لم أفكر في الحياة فيه، ولم أخطّط للإقامة فيه من قبل. فرضت عليّ الأيامُ ضرائبَ قبل ولادتي وبعدها، مازلتُ حتى اليوم أدفع شيئًا من فاتورتها الباهظة، لانتمائي لمجتمع تسوده تراتبيةٌ دينية وعشائرية هرمية، تستمدّ قيمتها من النسب، والانتماءِ كرها لطبقة، تضع الفردَ فيها أقدارُ أبويه الطبقية وجيناتهما الوراثية. 
أقدم هذا الكتاب ثقةً بالجيل الجديد، وتثمينًا لجهوده وما يتطلع إليه من إنجاز مبتكر. وتحية محبة وامتنان للأبناء صانعي مستقبل عالمنا وأوطاننا.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير