لم تكن القضية الفلسطينية في يوم من الأيام طوال أكثر من 76 سنة مرتبطة بشخص أو بحدث ، ويذكرنا تاريخ النضال الوطني والمقاومة الوطنية في فلسطين الشامخة بلائحة طويلة جدا من الشهداء من قادة ومناضلين ومواطنين، الذين سقوا بدمائهم أرض فلسطين الطاهرة ، ورغم فداحة الفقد المتكرر لرجال ونساء ، اعتقدنا في حينه صعوبة تعويضهم ، فإن القضية ظلت نابضة بمقاومة الاحتلال والنضال من أجل التحرير والاستقلال .
طبعا الكيان الإسرائيلي لم يستطع الانتقال إلى مستوى دولة ، وبقي قوة احتلال يتعامل مع القضية بهوية وقوة استعمارية ، لذلك لا يتجاوز ثقافة القتل والتدمير والتخريب ، اعتقادا منه أن مقاربة استخدام القوة المفرطة قادرة على أن تكون عاملا حاسما في الصراع ، لذلك استشهد القادة والزعماء والمناضلون والمقاومون لكن الأرض ظلت حية تنبض بالحياة ، واستمرت المقاومة قناعة وفكرة ليست مرتبطة بأسماء معينة ولا بجهة محددة . وهذا ما لا يمكن للعقل الإسرائيلي فهمه واستيعابه .
لذلك حينما تتساقط حاليا أسماء قيادات في المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، فإن المقاربة التاريخية لهذه القضية تؤكد استمرار حدة المقاومة في مواجهة الاحتلال ، بحيث تزداد هذه الحدة بارتفاع أعداد الشهداء وتتحول الخسارة إلى ربح والانتكاسات الظرفية إلى بذور انتصارات قادمة .
دليلنا في هذه القراءة المتواضعة ، أنه على الرغم مما يتوهمه الاحتلال من إنجازات حققها طوال أكثر من سبعين سنة ، انتصر فيها على جيوش عربية نظامية، وواجه خلالها بوحشية المقاومة الفلسطينية ، واحتمى دوما برعاية وسند غربي سخي جدا ، فإنه لم يتمكن من تحقيق الانتصار النهائي ، وفي مقابل ذلك وعلى الرغم من الانتكاسات التي تعرضت لها القضية ، وعلى الرغم من جحافل الشهداء ضحايا المجازر والمحارق التي اقترفها الاحتلال ، ورغم التدمير والتهجير والاعتقال والتعذيب ، فإن المقاومة الفلسطينية لم تنهزم . والمعادلة الحالية تتمثل في أن العدو لم ينتصر وفلسطين لم تنهزم . وهي معادلة صعبة ومعقدة لا يمكن تفسيرها بالتسطيح والتبسيط ،الذي لا يتجاوز مستوى التعتيم والالتفاف ، بل الصيغة الوحيدة لتفسيرها تكمن في أن المقاومة فكرة ، والفكرة لا يمكنها أن تموت ، لأنها جينة متوارثة بين الأجيال المتعاقبة ، وأن الاحتلال والاستعمار زائلان مهما طال مقامهما ، وجميع التجارب التي عاشتها البشرية لحد الآن تؤكد هذه الحقيقة.
لذلك حينما تطال أيادي الغدر الصهيوني هذه الأيام قامات مقاومة فلسطينية شامخة في فلسطين وفي لبنان ، فإن ذلك دليل آخر على بقاء المقاومة ولادة واستمرارها في ضمان شروط الحياة للقضية الفلسطينية .
ثقافة الاحتلال ترى في جرائم الإبادة التي تقترفها حاليا وسيلة ضغط قوية لفرض مفاوضات تحت السلاح ، ليأتيها المفاوض خانعا مستسلما للتوقيع على بياض . وهي نفس المقاربة التي اعتمدها في مرات سابقة ولم ينجح ، لأن حقيقة المفاوضات لا يمكن أن تحشر في دائرة الأسماء والأهداف التكتيكية . وهذا ما لايمكن أن يستوعبه العقل الإسرائيلي الاستعماري .
لذلك ، لا غرو في أن أيادي الاحتلال الملطخة بالدماء ستطال قيادات ومقاومين آخرين ، ولا شك في أن آلة الدمار الصهيوني ستتواصل ، ولا ريب في أن الدعم والتغطية الغربية ستزيد ، و قد يحقق الاحتلال مكاسب من كل هذا ، بما في ذلك حتى احتمال تحرير الرهائن ، و لكن المؤكد والراسخ ، أن الاحتلال لن ينتصر وأننا لن ننهزم ، وكل ما سيتحقق ويدوم هو الاحتلال مقابل المقاومة ، إلى أن يزول ما هو طارئ وتبقى الفكرة خالدة .