صناعة التاريخ فرصة لا تتوفر لكل أحد على هذا الكوكب، وهناك مَن يضيع الفرص وهي تأتي إليه ويهرب منها، وهناك مَن يلتقطها بسرعة وينتفع منها بكل وسيلة ممكنة، وهناك مَن يغتنم الفرص لأنها تمر مر السحاب كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي قال: «الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ».
والمعنى أن السحاب حين يمر لا يعود بل يمضي في طريقه، وقد يأتي سحاب آخر وقد لا يأتي .
العرب معروف عنهم أنهم يضيعون الفرص التاريخية ولا يشبهون في ذلك بقية الأمم من حولهم، والتاريخ حافل بالشواهد، حيث الهزائم والانكسارات، ولعل القضية الفلسطينية عنوان صادم للهزيمة والتخلي عن المسؤولية، فمنذ العام 1948 والعرب يعيشون أشكالاً من الهزائم ولكنهم برعوا في تغيير معنى الهزيمة إلى النصر، فبعد هزيمة حزيران المذلة أمام الكيان الصهيوني عام 1967 برع أحد الصحفيين المشهورين حين أطلق تسمية نكسة حزيران على تلك الهزيمة المذلة لكي يرضي غرور الرئيس جمال عبد الناصر الذي قاد مصر إلى مواجهة خاسرة. ولعل أكثر الحكام العرب صناعة للسخرية على نفسه كان صدام حسين الذي انتصر في حربه على شقيقه، ولكنه انهزم بطريقة مذلة عام 1991 وبرع هو الآخر وآلته الإعلامية في تسمية الهزيمة بالانتصار حين سحقته الولايات المتحدة وأذلته في خيمة صفوان، وظل يتحدث عن النصر وسمى نفسه قائد النصر العظيم، وظل يتغنى بذلك بينما انشغل الشعراء بتأليف الأغاني التي ينشدها المطربون والفرق الموسيقية، معبرين عن فرحتهم بأكبر هزيمة تاريخية تحولت في مخيلة زعيمهم إلى نصر وفتح مبين لا يشبه أي نصر .
لأن الجيوش العربية مهزومة ومنكسرة وخائبة والحكومات متواطئة خائفة وعميلة للأجنبي، فإن التضحيات والبطولات تأتي من منظمات وفصائل ليست مرتبطة بالحكومة بل تأخذ على عاتقها مسؤولية المواجهة والتصدي وتحقيق الانتصارات التي تبهج قلوب الشعوب العربية كما فعلت حماس وكما فعل الحوثيون وكما فعل حزب الله وكما فعلت فصائل المقاومة العراقية التي تصدت من وقت مبكر للوجود الأمريكي ولا تزال تتصدى وتعلن رفضها المطلق لهذا الوجود الغريب. وبينما يواجه حزب الله وحماس الآلة الحربية للصهاينة ويلقنون العدو الصهيوني الدروس فإن الحكومات العربية المطبعة تتآمر على قوى المقاومة وتناصر إسرائيل وتدعمها عبر وسائل الإعلام المملوكة لها، وهي وسائل إعلام تستحق وصفها وسائل إعلام عبرية وليست عربية لفرط تنكيلها بالمقاومة وبثها للسموم والأكاذيب والتضليل والتهريج بقوة العزائم، بل ويتمنى قسم من العرب انتصار الصهاينة في تلك الحرب .
وكم من العرب شمت باستشهاد قادة حماس وآخرهم السيد إسماعيل هنية، وثم بالسيد حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني الذي قدّم حياته ثمناً لوعده بالوفاء والبقاء وعدم الاستسلام والخضوع لإملاءات الأعداء من الصهاينة والأمريكيين .
واليوم تضرب إيران المثل العظيم في الدفاع عن كرامة المسلمين وهيبتهم، حيث شنت هجوماً صاروخياً عنيفاً ضد القواعد العسكرية والمنشآت الأمنية في عموم فلسطين المحتلة، وتساقطت تلك الصواريخ كأمطار من نار تهاوت من بين السحاب وأشعلت الأرض وزلزلتها تحت أقدام الصهاينة، حيث ولأول مرة تقصف مصالح الكيان الصهيوني بطريقة فعلية وليست استعراضية وبمئات الصواريخ، بينما العرب يراقبون وينتظرون الأخبار السارة من أوليائهم الصهاينة، لعل من تلك الأخبار انكسار حزب الله وحماس، ولكن هيهات هيهات منا الذلة .