ظافر جلود
المخرج المسرحي جاسم العبودي خريج معهد (كودمان) في شيكاغو بالولايات المتحدة برزا في أزمنة صعبة، وتحمل عبء البدايات، يوم كانت الثقافة العراقية مازالت تحبو ويتطلع جيل المثقفين نحو غد مشرق. درس في الخارج، ووظف كل تلك الطاقات الخلاقة في المسرح والسينما والتلفزيون وقاعات التدريس، فتركوا ارثاً وأثراً كبيرين في نفوس العراقيين.
رغم أهمية جاسم العبودي أستاذا ومخرجا وممثلا في ريادة المسرح العراقي خاصة وانه رعى الجيل الأول عبر تدريسه المسرح في السنوات الأولى في معهد الفنون الجميلة، وتخريجه أهم الأسماء في المسرح العراقي أمثال: يوسف العاني، وسامي عبد الحميد، وجعفر السعدي، وبدري حسون فريد. لكنه عاش بالظل ليس بسبب قلة اعماله وهجرته المبكرة واسلوبه بالإخراج والتمثيل لكن ان الاعلام تجاهل التركيز عليه ، رغم ان طلبته الأوائل يذكرون انهم كانوا يتلمسون الخطوات الأولى في تعلم فن التمثيل، لكنهم كوجبة اولى في معهد الفنون الجميلة لم يتعلموا من أساتذتهم آنذاك، في اوائل خمسينات القرن الماضي، إلا بدايات مبسطة عن التمثيل الكلاسيكي في أداء الشخصيات، الى ان جاء العبودي متخرجا من اميركا، ليكون أول من نقل نظريات قسطنطين ستانسلافسكي في فن التمثيل، وكيفية التقمص، ونقل الطلبة الى أجواء تحديثية لم يعرفها حتى المسرح العربي آنذاك وكان له الفضل في تغير نمط الأداء.
ثم إن العبودي كمخرج ومنهج يعد من أهم أعمدة المسرح العراقي مع إبراهيم جلال. وهو المجدد والخارج عن ثوب البساطة والسطحية، الذي كان يغطي اغلب أعمال تلك الحقبة الزمنية. فهو الباحث عن الرؤية الفكرية في ترجمة النص المسرحي نحو رؤيا بصرية، والمتعمق في إضفاء لمسات الجمال والتفرد عبر إخراجه
إعمالا عراقية وعالمية حركت وجدان الجمهور، وسجلت علامات فارقة في تأريخ المسرح العراقي، كما ان أسلوبه في التدريس أرخ لبداية انطلاق تجربة تعليم جديدة في التدريب على التمثيل والإخراج عربيا وليس عراقيا فقط.
الفنان الرائد جاسم العبودي مخرج وممثل عراقي ولد عام 1925 في مدينة الشطرة في لواء الناصرية (محافظة ذي قار) وفيها أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة ثم أكمل دراسته الإعدادية في مدرسة النظامية في بغداد عام 1943، وهو العام نفسه الذي كتب فيه أولى نصوصه المسرحية، ثم التحق بالدراسة في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج بامتياز في عام 1947 ، ليلتحق في نهاية الأربعينيات ببعثة لدراسة المسرح في واشنطن، ملتحقا بمدرسة المسرح التابعة لمعهد الفنون في شيكاغو ويحصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة في عام 1953 ، فكان أول عراقي يأتي بشهادة مسرحية من أميركا، ليكون أستاذ المسرح المتجدد في معهد الفنون الجميلة عام 1954 . وقد شغل جاسم العُبودي العديد من المناصب الأكاديمية والإدارية منها مدرس لمواد الإخراج والتمثيل والصوت والإلقاء والأدب المسرحي في معهد الفنون الجميلة ومُحاضِر في الأدب المسرحي في كلية التربية وقد أسس العُبودي فرقة المسرح الحر في عام 1954 وكان رئيسها الفني حتى عام 1973.
وأخرج جاسم العبودي عشرات الأعمال المسرحية لمعهد وكلية الفنون الجميلة والفرقة القومية للتمثيل وفرقة المسرح الحر التي شارك في تأسيسها ، وهي فرقة طليعية ضمت الأجيال المتخرجة حديثا من الكليات الفنية وغيرها ، ومن هذه الإعمال إخراج مسرحيات «تؤمر بيك» و«ماكو شغل» من تأليف يوسف العاني و«الأسوار» لخالد الشواف و«العادلون» لألبير كامو و«عطيل» لشكسبير و«البخيل» لموليير مع إعداد اعمال عديدة من تأليف أدباء عراقيين أو إعمال مترجمة إلى العربية بالإضافة، إلى تمثيله لعدد من الأدوار في الأفلام السينمائية ومن هذه أفلام «اللوحة» و«البندول» والتي أنتجت في عام 1978 وكانت من إخراج كارلو هاريتون.
كما ان أسلوبه في التدريس أرخ لبداية انطلاق تجربة تعليم جديدة في التدريب على التمثيل والإخراج عربياً وليس عراقياً فقط ومن أشهر أعماله في المسرح كانت مسرحيات «الحقيقة ماتت» في عام 1955 «الطريق» في عام 1969 و«العادلون» في عام 1969 و«الگاع» في عام 1971 و«حفلة سمر من أجل 5 حزيران» في عام 1972 و«كلهم أولادي».
وفي عام 1954 حدثت نقلة نوعية كبيرة في المسرح العراقي بعودة جاسم العبودي من دراسته في الولايات المتحدة، حاملا معه منهج ستانسلافسكي في الاخراج. وعين مدرسا لمادة التمثيل في المعهد، سرعان ما اخذت الافكار التي جاء بها تزيح بسهولة ما كان معمول به من قواعد في الاخراج والتمثيل المستمدة من الاساليب الكلاسيكية التي جاءت الينا من المسرح المصري ومناهج تدريس المسرح الفرنسي المعمول بها في القرن التاسع عشر، قبل تبلور وانتشار طريقة ستانسلافسكي في العالم والتي نقلها حقي الشبلي الى المعهد. في نفس عام 1954 اسس جاسم العبودي فرقته (فرقة المسرح الحر) من أبرز اعضائها شكري العقيدي وفيما بعد قاسم محمد وكارلو هاريتون، قدمت تجاربه الاخراجية على مسرحيات عالمية محددة حرص على اعادة اخراجها طوال حياته أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان.
ثم ان جميع الفرق المسرحية التي تأسست وعملت في هذه الفترة، بمختلف توجهاتها السياسية، ان كانت قومية او ديمقراطية، خاضت صراعا سياسيا ضاريا بمعية الناس ضد نظام الحكم الملكي الذي اعتراه الوهن والتهرؤ بفعل قوة زخم حركة ونشاط الشارع الذي لم ينقطع حتى انهياره وسقوطه في 14 تموز 1958 وحولت هذه الفرق والجماعات الفن الى سلاح مواجهة حقيقي.
وفي نفس الوقت وطد المسرح العراقي في هذه الفترة اسسه الفنية السليمة، التي تستند على العلم والفن والتجديد بعد عودة جاسم العبودي، واستجد نوع من التوازن فيما بين مهمته الجمالية، ومهمته الاجتماعية في التغيير.
ويضع جاسم العبودي تعريفا للمسرح بكونه محاكاة للواقع، ولكن ليس بمعناها الفوتوغرافي، والدراما ما هي إلا تعبير عن الأفكار الإنسانية وهي بدورها نتاج ما يسترجع من صور. هذه الصور تسترجع لأن الفنان الخلاق يستعمل صور الخبرة السابقة، صور الحياة التي أعاد تجميعها ومن خلالها يبدع شيئا وهو نتيجة تصوره الخاص، ولكنه أساس لا يعدو أن يكون الحياة ذاتها فالغرض من الفن والمسرح كشكل هو إثارة الأحاسيس والأعمال الدرامية مثل هاملت وفاوست والحضيض والشقيقات الثلاث، تثير شعورا حادا لدى المتفرج هذه الإثارة العاطفية يجب ألا تكون مجرد تأثير عابر بل يجب أن تكون قوة العاطفة على الفرد بالغة العمق بحيث يبقى بعد زوال المؤثر المباشر من ضياع دائم يؤدي إلى التفكير وما لم يثر العمل المسرحي هذين العاملين فلا يمكن إدراجه ضمن الأعمال المسرحية، فالإثارة التي يحدثها العمل الفني لم تعط الفرح ما يفكر فيه ولكنه أيقظ تجاربه الذاتية وتصوراته وأفكاره عن الحياة ودفعتها إلى دائرة الإدراك والعمل ، هذا للفهم العملية الفنية لدى العبودي انعكس بشكل واضح على طبيعة عمله في المسرح فنجده قبل أن يقرر البدء مع الممثل المعني واضعا أمام هذا الممثل بعض الخصائص الفردية والإبداعية المميزة له بالذات ومن خلال هذه الجلسات .
ويرى جاسم العبودي أن المخرج هو سيد المسرح الذي تخضع لديه العملية الخارجية إلى ثلاث مراحل الأولى تبدأ بالمخرج المترجم وهو الذي يوضح كيف يكون التمثيل ويمكن أن نسميه بالمخرج الممثل وهو الذي يسهل المشاكل المتعلقة بالتكوينات الفنية عن الممثل، وثانية المخرج العاكس وهو الذي يعكس للممثل الإحساسات والانفعالات ويعيدها إليه ليقوم الممثل بتمثيلها وعلى المخرج أن يتعرف بدقة على إمكانية الممثل وان يعطيه من نفسه في أثناء العمل ما يعينه على التعمق في دوره والأخذ بناصيته ، ثم المخرج منظم العرض المسرحي وهو الذي يتحمل كل أعباء المسرحية وينظر إلى كل مرحلة فيها نظرة تمعن ويبذل كل جهوده لربط شخصيات المسرحية في وحدة فنية متكاملة مضيفا إليها عنصر الإنارة والديكور والموسيقى ، وقد اخذ الديكور حيزا مهما في عمل جاسم العبودي إذ عد احد العناصر المهمة في المسرحية، وما نعنيه ليس الديكور الجامد الثابت وإنما الديكور المتحرك بالألوان والتشكيلات التي تخضع لضرورات الفعل المسرحي. لقد حرص جاسم العبودي منذ البداية على تثبيت مجموعة من القيم الجديدة في مسرحنا العراقي أولها: أن المسرح ما هو إلا سلاح متقدم وفعال ينبغي لنا أن نتقن ممارسته ونحسن استعماله خدمة لقضايا الأمة والشعب، وثانيها : أن المخرج المسرحي هو عقل المسرح وذهنيته وسيد نظريته، وثالثها احترام عمل الممثل لكونه الشخصية الأولى التي تبدأ بوضع البذرة الأولى في العمل ثم طريقة الاتصال بالمتلقي .
لقد كان جاسم العبودي يرى أن قيمة المخرج الواقعي الحديث تكمن في قدرته على عكس المظهر في استمرار الحياة الواقعية بشكل فني جميل ومؤثر، يكتب المعلم في الصفحة الأخيرة من حياته : « كنت أتمنى لو أنني مثل مايكل انجلو وأكون نحاتا ، أن أتمتع بسلطة مطلقة على الصخر، فأشكله كيفما أشاء، كنت أتمنى أن أحول خشبة المسرح إلى معرض للفن يسرق النظر قبل أن يستولى الممثلون بكلماتهم على حواس الناس» اليوم نتذكر تلك الروح العذبة ، النقدية حد التجريح ، والمرحة في أوقات الصفاء، الراصد لأصعب لحظات الحياة وأدقها لتكون موضوعا لمسرح عشقه حد التماهي.
وحتى نتعرف اكثر على تجربتيه بالإخراج المسرحي يذكر وباتصاف تاريخ الإخراج المسرحي العراقي بغنى الأساليب و المعالجات الإخراجية و تنوع الرؤى يصل أحيانا إلى حدِّ التناقض في التصورات و الطروحات التي يقدِّمها المخرج نفسه بين عمل مسرحي وآخر... ولكن الأمر يختلف مع قراءة مخرج مبدع ورائد تأسيسي لفن الإخراج المسرحي في العراق كالعبودي وجلال اللذين وضعا أسساَ َ وتقاليد راسخة وإيجابية في هذا الفن عبر دروسهما وتجاربهما قوية التأثير...
عمل الفنان جاسم العبودي مع فرقة المسرح الحر في بداية الامر، ورغم أنه ما كان له أثره المميَّز في المسرح العراقي آنذاك. وكان في عمله [واقعي] الاتجاه إذ تميزت أعماله بالدقة التاريخية الأمر الذي يستدعي المعالجة الواقعية المناسبة للتعبير الفني بآلية الدقة التاريخية.
ولقد نقل المعلم الأستاذ العبودي طريقة الأستاذ الكبير (ستانسلافسكي) متأثرا بمفردات رئيسة منها بخاصة مسألة توجيه التقمص عند (ممثليه)... حيث فرضت حال قصور التقنية المسرحية في زمنه مسألة إبراز دور الممثل وتأكيده ولذا وجدناه يعتمد عليه [أي على الممثل] في معالجاته الفنية الإخراجية.
وكان للفنان العبودي فضل في تصحيح الوضع السائد في طريقة الأداء (التقليدية) في المسرح العراقي إذ يمكن الإشارة هنا من باب التذكير فقط إلى الأداء الخطابي على شاكلة نموذج الفنان المصري يوسف وهبي. وفي التقنيات المسرحية مارس عددا من الآليات التي برهنت على لمساته الباهرة التي أفاد منها تلامذته وواصلوا بناء على تشكيلاته الإبداعية وبصريا يمكن أنْ نتوقف سريعاَ َ عند توظيفاته في مجال الإضاءة. فقد وظف الإضاءة في تعزيز الإيهام المنظري عبر مساقط منوعة كان يستهدف منها قيما بصرية بوصفها مفردات دالة بمحتوى ومضامين تفسيرية حاملة لرسائل دلالية ملموسة في لغته المسرحية.
ومع التحديث في الأسلوب والطريقة التي اتى بها المخرج العبودي فقد ألغى من ديكوره المنظر المرسوم على الخلفية مطوراَ ذلك إلى المنظر بوصفه بيئة مجسَّمة مستخدما لهذا الغرض الكتل والأجسام.. كما يمكن للمتلقي أنْ يجد قراءات مهمة تدخل في خطاب العرض المسرحي الذي يديره المايسترو العبودي. فكانت لقطع مناظره معانِ ودلالات متنوعة غنية تضيف لدلالات الحوار الدرامي ومعطياته ومحتوى الرسالة فيه..
فهي رموز مُفسِّرة محللة بدلالات الأفعال فالعجلة المدورة على سبيل المثال تدل على الزمن كما في بعض مسرحيات قدَّمها، والشمعة إلى الفكر، وما إلى ذلك من دلالات يمكن الاستدلال عليها من السياق وتداعيات لغة المفردات البصرية ومعجميها العام المستدعى من الذاكرة الجمعية، والخاص المقروء في إطار معطيات خطاب العرض ذاته...
ومن ناحية أخرى يمكن أنْ نستدعي من الذاكرة انطباعا مخصوصا في أعمال العبودي حيث تميزت طريقته باعتماد التكامل بين النص وعناصر العرض الأخرى. فرفض جاسم العبودي تشويه المخرج للنصِّ بحجة إضفاء لمساته واتبع طريقة (ستانسلافسكي) في دراسة النص وتحليله أو ما يمكن بشيء من الحذلقة تسميته من هذه الناحية [فقط] المخرج المفسِّر ولكوننا أمام مخرج من طراز مبدع لا يكتفي بالإدارة ولملمة العناصر فإنَّ إيقاع العمل عنده كان قد تألـَّف من توحيد كل مكونات العرض بطريقة توليدية مبدعة.
بعد ذلك انصبت غايته على النهوض بحياة الإنسان والمجتمع العراقيين, ولم يتوقف عند حدود أية تصورات [تجريدية بحتة] تبعد بالمسرح عن جوهره الإنساني وتجعله مجرد هلوسات وخطاب عرض بصري للإبهار أو لتمضية وقت بلا قيمة مضمونة. ونحن بهذا يمكن أنْ نقول إنَّ الفنان العبودي مال إلى المخرج المفسِّر الذي يُخلـِص للنص ويحرص عليه بما يعمِّق القيم الدلالية والمضامين أو الرسائل المفيدة التي يبعثها عبر خطاب أعماله المسرحية.
من هنا كان دعمه لدور النص ولتطويره، فيما لم يفقد في الوقت نفسه روح المخرج المبدع في تكوين العرض المكتمل وخطابه المسرحي المركـَّب مثلما أسلفنا في هذه الانطباعات المستدعاة من الذاكرة ومن بضع وريقات محررة منذ سنوات بعيدة.. ولعلَّ عدد من نقادنا المعروفين بخاصة المجايلين يمكنهم إغناء قراءة جدية أعمق وأكثر تدقيقا وتخصصية بما ينفع أجيال العمل الجديد في مسرحنا اليوم.
توفي الفنان الرائد المسرحي جاسم العبودي غريبا كغيره من الرواد عام 1989 في واشنطن التي هاجر اليها اواسط ثمانينات القرن الماضي.