تبدلت المعادلات التي أسست لفكرة الشرق الاوسط الكبير باتجاهين : الاول ،انسحاب قوى الصراع العربي الاسرائيلي في النظام الرسمي العربي ، والاخر ، البدء بمرحلة التطبيع العربي الناعم ( السلطة الفلسطينية وبلدان عربية مع الكيان الغاصب ،ذلك منذ اتفاقية اوسلو 1993 و 1995 ، اذ نصت الاتفاقية على إقامة حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية تستمر حتى خمس سنوات، بهدف التوصل إلى تسوية دائمة تتعلق بالقضايا النهائية مثل القدس، اللاجئين، المستوطنات والترتيبات الأمنية ، رافق ذلك ظهور الاحادية القطبية في النظام السياسي العالمي في مطلع تسعينيات القرن الماضي نفسه .
وقد بدأ الاسلام السياسي المقاوم يحل محل التيار العروبي الذي انتهى دوره بنهاية الاتحاد السوفيتي السابق وكانما كان ذلك التيار قائما على توازنات القطبية الثنائية في خوض غمار القضية الفلسطينية.
ومن هنا بدا كفاح التيار الاسلامي المقاوم كبديل للتيار العروبي وهو في مسار داخلي ظل يواجه فيه تعقيدات وانقسامات ايديولوجية وخلافات ماضوية ادت الى انعزاله عن المحيط العربي الرسمي واعتماده فلسفة الجمهورية الاسلامية الإيرانية التي حلت محل التيار القومي العربي في المواجهة مع اسرائيل.
ولم يبق امام ايران في حرب التحديات والحصار المفروض عليها سوى عقيدة سباق التسلح الذي لامس القوة الناعمة النووية والتهديد بها ، في وقت ظلت تخضع لحصار غربي لم ينته منذ اربعة عقود ونيف ازاء عزلة عربية- اديولوجية وعزلة اقتصادية غربية ، لاجئةً الى التناغم مع قوى الشرق التي اخذت تعيد رسم بدايات قطبيتها ببراغماتية عالية وأيديولوجيا اقل مع الغرب الامبريالي .
ففجوة التبدل التي خلفها الانسحاب الرسمي العربي في مواجهة اسرائيل عسكرياً لمصلحة المقاومة الاسلامية ،اضافت الى الكيان الاسرائيلي زخما نافعاً من انشقاق العالم العربي الرسمي عن العالم الاسلامي الثوري الإديولوجي ..تحت حراك غذته معطيات حروب طائفية ناعمة وخشنة حسب الحالة التي سيرت مجتمعات الشرق الأوسط.
وهكذا انهكت ايران بالحصارات وتحملت تكاليف حروب الاستنزاف وهي تواجه ضغطا شعبيا داخليا بات بالغالب مغتربا عن قضايا الشرق الاوسط، وضغطا دوليا وعربيا مضاداً وهو مزيج بين الاديولوجيا والاقتصاد.
وتحت هذا الشكل والقيد الجيو سياسي تاسست معادلات شرق اوسطية تصارعت فيها ايران مع الكيان الاسرائيلي خصوصا والغرب عموماً ، ومحور ذلك الصراع هو السعي نحو الامساك بملف تطوير القدرات النووية والتسلح ، والغرب بقضه وقضيضه يصارعها بقدراته الاقتصادية و الرقمية الفتاكة .
وهنا يذكرنا التاريخ السياسي الإديولوجي للمنطقة ، ذلك عندما فقدت سوريا هضبة الجولان في حرب العام 1967 وكان شعار الدولة السورية حينها هو : المحافظة على نظامها العروبي الإديولوجي … انها خسرت الحرب لكنها ربحت النظام .
واليوم تتصدى ايران تحديات الغرب والكيان الإسرائيلي و تحرير القدس ، امام معضلة تنامي التطبيع العربي وتحالفاته الغربية ، وهي ليست على استعداد لخسارة نظامها الإديولوجي في حروب غزة او لبنان في وقت تظافر الغرب والعرب المطبع على افشالها وهم اصحاب القضية والمصير المشترك.
لقد اثار المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقال مهم عنوانه: شرق اوسط مختلف..! تناول فيه القول ((…..سيظل جمهور حركات الاسلام السياسي وحده في ميدان الصراع ،وهذا الجمهور لن يمنع لوحده ولادة الشرق الاوسط الذي عملت عليه العقول الماكرة الذكية التي نجحت في التخطيط والتنفيذ مستفيدة من تعويل اهل القضية على الايديولوجيا وخطابها واهمالهم القضايا الواقعية لهذا الجيل ،فانصرف عنهم في ساعة الجد .
فلسطين ومعاركها استهلكت العديد من المشاريع والافكار والايديولوجيات والسيناريوهات ،بيد ان التكنولوجيا والمعرفة والتحالفات الذكية تستطيع ان تلحق الاذى باقوى المباديء رسوخا ،فلا حياة لمبدأ لاتحميه القلوب والسواعد والعقول الذكية )).
وبذلك نجد ان التكنولوجيا الرقمية والتطبيع العربي والاحقاد المذهبية داخل الجسم الشرق اوسطي وحصار ايران والقوى المتعاونه معها في ابجديات الصراع وموقف روسيا والصين شبه الصامت في قطبيتهما الثنائيّة (الهلامية ) والتي لاتشابه تلك القطبية الاديولوجية لعصر الاتحاد السوفياتي السابق والتي ظلت حينها وسادة للمقاومة العربية، فان جميعهم اليوم لم يوفروا لايران وتيار الممانعة تلك الثنائية القطبية التي ارتكزت عليها الحركات القومية قبل ستة عقود في الحرب ضد اسرائيل، كي ترتكز المقاومة الاسلامية ثانية في سيناريو متجدد في نصرة فلسطين ، وبهذا تسير الامور على وفق ثنائية قطبية مازالت غير مكتملة في شروطها بين الشرق والغرب . بل امسى الكيان الاسرائيلي والغرب الامبريالي قوة ثنائية قطبية منسجمة ومتكافئة في ادارة إيديولوجيا شرق اوسط جديد ،احدهما اسرائيل والعرب المطبعة والاخر الغرب الامبريالي وهيمنته على العالم وهما على كفة توازن واحدة .
واخيراً، فقد عاد مشروع الشرق الاوسط الجديد ليكتمل على ثوابت بديلة ، قوامها قطبية ثنائية (موازية) للامبريالية في تكاملية الارادات ، و يمثلها تحالف مزدوج : إسرائيل بمنهج (اديولوجي راسمالي رقمي صهيوني ) مع التطبيع داخل النظام العربي الرسمي بمنهج (ريعي براغماتي ) من جهة ، والغرب الامبريالي وماكنته المالية والتكنولوجية الكبيرة من جهة اخرى .
لياخذ المركز الامبريالي الراسمالي الجديد الشرق اوسطي مكاناً مركزياً بديلاً واستثنائيا ( كقطب ثنائي موازي ) و للمرة الاولى في تاريخ المنظومة الطرفية لراس المال العالمي ….تحت مسمى ((عالم مركزي شرق اوسطي جديد في مرحلة ما بعد الإمبريالية )) .
نقلا عن «الحوار المتمدن»