القاهرة/متابعة الزوراء:
عكست المبادرة التنظيمية التي أطلقها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، بهدف ضبط أداء القنوات التلفزيونية المحلية، مدى عدم قدرته على التدخل بإجراءات وقرارات صارمة لإنهاء ما يشبه الفوضى الإعلامية، ليجعل تلك المسؤولية على عاتق إدارات القنوات نفسها بلا تدخل منه.
وأكد المجلس أن مبادرة “التنظيم الذاتي” لضبط الإعلام والبرامج الحوارية والأنشطة الإعلانية، جاءت بعد تكرار المخالفات في الأداء الإعلامي مؤخرا، بشكل أساء إلى منظومة الإعلام عموما، لافتا إلى أن المبادرة تستهدف إيجاد السبل اللازمة لتطوير الصناعة وفق المعايير المهنية المطلوبة.
وقال كرم جبر رئيس مجلس تنظيم الإعلام إن تفعيل وتنفيذ المبادرة سيكونان من خلال القنوات، بحيث يكون هناك التزام أدبي بتنفيذها، ومن ملامحها ضبط وقت البرامج الحوارية بما لا يزيد على تسعين دقيقة، والحد من الآراء الذاتية للمذيعين.وفيما يُعد انسحابا تدريجيا، أسند مجلس الإعلام مهمة تفعيل المواثيق والأكواد الإعلامية إلى القنوات، إضافة إلى قيامها بمحاسبة مقدّمي البرامج حال وقوع خطأ، في تغير جذري لما كان يحدث في الماضي القريب عندما يتمسك المجلس بمعاقبة المذيع/ المذيعة المخطئ / المخطئة بالتجميد أو الوقف لفترة.
واكتفى المجلس، وهو المعني بإدارة المشهد الإعلامي في مصر، بمطالبة القنوات بالتدخل لتحجيم أداء مقدمي البرامج الحوارية “توك شو” بحيث لا يبثون أفكارهم الخاصة على الشاشات، وتقوم كل قناة بصناعة هوية خاصة بها، على مستوى أداء المذيعين وطريقة عرض المحتوى، وتكون هناك جمعيات لحماية حق الجمهور في المشاهدة النظيفة، ما أوحى بأن المجلس تنازل عن صلاحياته.
وأوضح رئيس جمعية حماية المشاهدين في مصر حسن علي أن حق الناس في المشاهدة النظيفة يتطلب إجراءات على الأرض وليس إطلاق شعارات، تبدأ بالمحاسبة لكل مخطئ وإزاحة الوجوه التي أصابت الجمهور بالإحباط والملل، وتصعيد الكفاءات والخبرات المتخصصة إلى القمة.
وأضاف في حديثه لـ”العرب” أن “الإصلاح الذاتي لن يتحقق في غياب الرقابة بمعايير مهنية صارمة، فليس منطقيا أن نترك المخطئ يُحاسب نفسه، وهذا قد يصلح وسط منظومة احترافية، لكننا لم نصل بعد إلى تلك المرحلة، وبالتالي يجب فرض الانضباط على الجميع، إذا أردنا توفير مشاهدة نظيفة للناس”.
ويوحي التعويل على قيام كل مؤسسة إعلامية بمحاسبة المنتسبين إليها بأن المجلس المسؤول عن المنظومة رفع الراية البيضاء، رغم امتلاكه صلاحيات للضبط والربط والحسم ضد المتجاوزين، كأنه يبعث برسالة إلى الحكومة للتدخل طالما أن نفوذ القنوات تجاوز الحد.
وتمتلك دوائر حكومية مصرية النسبة الأكبر من وسائل الإعلام المحلية، سواء أكانت فضائيات أم صحفا ومواقع إخبارية، وتهيمن الجهة المالكة للقنوات على محتوى البرامج الحوارية، بما يعني أن صلاحيات مجلس تنظيم الإعلام في تلك المسألة ضعيفة، وسيكون من الصعب التدخل في ضبطها بفرض عقوبات.وفهم البعض من أبناء المهنة أن مبادرة المجلس موجهة إلى جهات داخل الحكومة، ليقول لها إنه غير قادر على ضبط المشهد وإنهاء الفوضى، ويحتاج إلى صلاحيات كاملة ويجب دعمه في مواجهة الجهات المالكة للقنوات التي لها الكلمة العليا على البرامج.
وتتقاطع مبادرة المجلس، إلى حد كبير، مع طبيعة الأزمة التي يُعاني منها الإعلام المصري، لاسيما القنوات الفضائية؛ لأن المشكلة ليست في هوية المذيعين أو طول وقِصر فترة كل برنامج، بقدر ما تتعلق بالسياسة التحريرية التي تحكم كل مذيع ولا يستطيع الخروج عنها أو تجاوزها، لأن كل ذلك يخضع لمعايير الجهة المالكة للقناة.
وهناك عقوبات خاصة بمخالفة الأكواد الإعلامية للمخالفين، سواء أكانوا صحفيين أم مذيعين، لكن العبرة بقدرة المجلس على تطبيقها أمام نفوذ بعض القنوات، فقد سبق أن أوقف برامج ارتكبت مخالفات مهنية، وتبين لاحقا أن مذيعيها لم يحصلوا على رخص لمزاولة المهنة، لكنهم عادوا إلى الظهور سريعا.
ويرى البعض من خبراء الإعلام أن الالتزام الأدبي من جانب المذيعين بمبادرة مجلس الإعلام بعد ارتكاب مخالفات لن ينهي الفوضى، لأن العقوبات نفسها لم تؤت ثمارها، أو تمنع تكرار التجاوزات، وبالتالي لا قيمة تُذكر إذا أصبح المذيع مسؤولا عن تصرفاته طالما أن الرقابة عليه ذاتية.وثمة احتكار واضح للشاشات من قبل الكثير من مقدمي البرامج الحوارية في مصر، ومن بينهم من يمارس دور المذيع والضيف والمحلل، وكل شيء، حتى أصبحت برامجهم أقرب إلى جلسات نُصح وإرشاد وتوجيه، دون تقديم معلومة أو الاستعانة بضيوف لهم وزن وثقل، ولا تتدخل الجهة المالكة للقناة فورا لتصحيح المسار.
جزء من الأزمة، التي قد لا يدركها مجلس الإعلام، يتمثل في أن فرض الكثير من المذيعين وجهات نظرهم على الجمهور من خلال برامجهم، يرتبط أحيانا بخدمة سياسة الحكومة عندما لا يوجد الضيف الذي يؤدي هذا الغرض، أو استمرار شح المعلومات حول ملف بعينه بشكل يدفعهم إلى ملء هواء البرنامج برأيهم.
وما يلفت الانتباه أن المجلس لم يُبادر إلى إبرام تعاون أو عقد شراكة مع الجهة المالكة لأغلب وسائل الإعلام ليضع معها معايير خاصة بالسياسة المطلوبة لإنهاء الفوضى في البرامج، وأطلق مبادرة عامة كأنه يبرئ ساحته، مع أن طبيعة ملكية القنوات لا تُعطي المساحة للمذيع كي يُدير برنامجه بمهنية.
كما أن المحتوى المقدم على الشاشات وهوية الضيوف أنفسهم يكونان محددين سلفا في أحيان كثيرة من خلال مؤسسات متداخلة في إدارة المشهد مع الجهة المالكة للمؤسسات الإعلامية، بحيث لا تشرد البرامج أو تخرج عن النص، وتقوم بخدمة سياسات حكومية بعينها.
وأكد حسن علي، وهو أيضا أستاذ متخصص في الإعلام بجامعة السويس، أن ضبط إيقاع المنظومة لا يحتاج إلا إلى إرادة قوية من كل الأطراف المتداخلة مع المشهد، ودون توافر الإرادة فلا قيمة لأي تحرك، مهما كان نبيلا وحسن النية، فهناك الآلاف من الكوادر البعيدة عن الصورة ولديها القدرة على بناء منظومة متحضرة.
ويظل التحدي الحقيقي متمثلا في أن الهيئات المعنية بتنظيم المشهد الإعلامي لم تتفق مع بعضها البعض حول البداية الحقيقية لتصحيح المسار؛ هل بتطبيق العقوبات على المتجاوزين أم بوضع خطة متكاملة، أم ترك المؤسسات تنظم نفسها ذاتيا، مع أن الحل يكمن في تطبيق كل ذلك دفعة واحدة.
وسواء التزمت القنوات بالتنظيم الذاتي بعيدا عن سلطات مجلس الإعلام أم لا، فإن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن الجمهور نفسه أصبح أكثر وعيا، بالاستمرار في مقاطعة الكثير من المنابر الإعلامية التي لا تتفق مع تطلعاته، في رسالة احتجاجية لم تستوعبها الحكومة ولا الهيئات المنظمة للمشهد، ترتب عليها أن الإعلام يخاطب نفسه ولا يسمعه أحد أحيانا، مقابل نفوذ شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت خارج السيطرة.