المحبة، والحب، والسلام، والتسامح، والتغافل، والإيثار، وغيرها من مفاهيم مُطلَقة، لا تخضع للتقييم المحسوس والملموس، فجميعها تمتثل لاعتبارات وقياسات متنوعة، تفرضها ظروف مختلفة، لكنها تبقى قِيَماً سامية عاش البشر، ومنذ بدء الخليقة، في محاولة إدراكها وتوطينها بينهم.
في مقطع متداول، ظهرت فيه شابة انكليزية، تحمل مكبّر صوت، وتناشد فيه المتظاهرين الوقوف في وجه عمليات العنف، التي امتدت في بريطانيا ضد المسلمين، وذلك في الشهر الماضي، ومُشيدة بوقفتهم ضد كل أوجه العنف، وبأن ما يدافعون عنه اليوم هو الأمل ضد الكراهية، وإعلاءً لقيمة الحب ضد الخيانة.
كان شعار الحب بدلاً من الكراهية عنواناً للعديد من حركات الاحتجاج والتحرّر. لعل أشهرها حرب فيتنام، حين انطلق على ضوء تلك الحرب شعار «اصنع الحب ولا تصنع الحرب»، الذي انعكست آثاره حينها على ثقافة جيل كامل، فتأثرت به الموسيقى والفنون والأدب والثقافة، بل حتى أساليب الحياة والعلاقات والمعيشة. واستمر بعدها صراع البشر ضد الكراهية في محاولة تحصين الحب، فبعد الحرب، التي اشتعلت في البوسنة والهرسك بين الصرب والكروات، والتي امتدت من عام 1992 إلى عام 1995، اجتمعت هيئات تربوية تعليمية من الطرفين، واتفقت على ألا تحتوي المناهج التعليمية على أي إشارة أو مواد ترسّخ المزيد من الكراهية، التي أفرزتها الحرب.
يرى عالم النفس النمساوي فرويد أن الكراهية هي المشاعر المُتجذّرة مباشرة من الغريزة العدوانية، وأطلق عليها متلازمة غريزتي الجنسية والعدوانية عند الإنسان، وهو ما أعجَبَ آينشتاين، الذي نسج حولها استنتاجًا يقول إن النفس البشرية لديها رغبة وغريزة أصلية تُلح عليها إلى الكراهية والتدمير والعدوانية.
إذاً، وبناء على رأي هؤلاء العلماء، وأيضًا على مشاهداتنا وتجاربنا كبشر مع عنصر الكراهية في النفس البشرية، يمكن القول إن نزع الكراهية بالمطلق هو أمر قد يكون صعبًا، لكنه لا بد ألا يكون مستحيلاً، وهنالك محطات من التاريخ تؤكد ذلك، فالزعيم الروحي، قائد حركة استقلال الهند، المهاتما غاندي، قاوم الاستبداد من خلال العصيان المدني السلمي، وعمل على رأب صدع الانقسام الديني والوطني في بلده، وأخرج بريطانيا من الهند من دون أن يُطلق رصاصة، كذلك كان مالكوم اكس، ونيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كنغ، والدلاي لاما، وغيرهم.
يعتقد الإغريق في أساطيرهم أن الكون لم يظهر في البداية، وإنما كانت هنالك فوضى في البداية من ذرات متناثرة لا رابط بينها، تتصادم وتتفرّق، لتجتمع وتتصادم مرة أخرى، وقد شبّه الإغريق هذه الحال بالكراهية التي تُفرّق ولا تجمع، ومعها بدأت تلك الذرات المُتنافِرة بالاقتراب من بعضها في حب وعناق، ومن هذا العناق وُلِدَ الكون.
مع ارتفاع وتيرة الحروب في العقود الماضية، حاول البشر، من خلال خطابات وقوانين وتشريعات، احتواء خطاب الكراهية، الذي ضاعَفَ من حدّته ظهور الإنترنت، وبالتالي التقارب الافتراضي بين الشعوب والأمم. أقول حاول البشر وسعوا إلى محاصرة الكراهية، التي تُعتَبَر المصدر الأول للحروب والنزاعات، بدءاً بالأمم المتحدة، التي دعمت عملًا موحّدًا لمعالجة هذه القضية، ومرورًا بقوانين الدول الداخلية، وصولًا الى المناشدات التي يطلقها البعض عبر الانترنت، ومع ذلك فقد بقيت - أي الكراهية - سائدة، ربما لأن ميزان العدل والعدالة بقي مقلوبًا ومترنحًا.
المشكلة أن العالم لا يملك تعريفًا موحّدًا للكراهية، لذلك بقي خطاب الكراهية بلا عنوان واضح، كل دولة تضع تفسيرها الخاص للخطاب، وتُقر القوانين التي تنظّمه، دول ترى في حرية التعبير تحريضًا على الكراهية، وأخرى ترى ذلك في احتجاجات الناس على أوضاعهم، ودول أكثر تطرّفًا، كالكيان الصهيوني، الذي يرى في المقاومة لاستعادة الحقوق المسلوبة تحريضًا وخطابًا يحمل عنوان الكراهية.
نقلا عن “ القبس “