أربعُ ليالٍ مَضينَ في المدينة المنورة كأنهن ومضاتُ مصابيحٍ على مشكاة الخيال، أو ارتجافاتِ نورٍ على مرافئ الأحلام، الروح لم ترتوِ بعد من الوصال، والعين تتطلع للمزيد من القربِ ومعانقة القبة الخضراء. غير أن المنادي ينادي، والأيام تجري، ولابد من مكة وإن طال السفر. وكان السفر الذي اخترناه من مدينة رسول الله إلى بيت الله ليس تقليدياً، كما هو في الباص الذي عليه أن يقطع مسافة لا تقل عن 450 كم بوقت لا يقل عن ست ساعات، ويكون المعتمرون فيه قد لبسوا ملابس الإحرام تمهيداً لتلبية العمرة من منطقة الميقات في أبيار علي التي لا تبعد عن المدينة كثيراً. لقد اخترنا قطار الحرمين السريع الذي يقطع المسافة بين المدينة ومكة بأقل من ساعتين ونصف الساعة، صعدناه جاهزين بملابس الإحرام، وما أن انطلق حتى سمعنا نداءً بالتهيؤ للوصول إلى منطقة الميقات بعد ربع ساعة، وبالفعل عند هذا الوقت جاء نداءٌ آخر بأننا الآن في الميقات، وهي التي تقابل أبيار علي للمسافرين في الباص، حيث عقد النية بالقلب، وإعلان الإهلال بالنُسُك: « اللهم لبيك عمرةً «.
لما كان القطار الكهربائي السريع يتلوى على السكة بسلاسة ونعومة حيث أنه القطار الأسرع في الشرق الأوسط، كان الذهن منصرفاً إلى مكة التي لم أشاهدها من قبل إلَّا بعيون القلب، وما تنقله لنا الصور والأفلام والفيديوهات التعريفية والفضائيات، وبالأخص مشاهد الطواف حول الكعبة المشرفة، والصلاة في المسجد الحرام، فكنتُ أسرح في الخيال عما سأكون عليه بعد ساعات قليلة في مواجهة البيت العتيق، وما سأكون عليه في تلك اللحظات التي يحلم بها ما يقرب من ملياري إنسان في العالم. توقف المطار في محطات قليلة بعد محطة المدينة المنورة، وهي على التوالي، محطة مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، محطة مطار الملك عبد العزيز في جدة، ثم محطة أخرى وسط جدة، ومنها يختصر القطار الطريق إلى مكة في عشرين دقيقة لا أكثر. ومن محطة القطار في مكة نقلتنا سيارة أجرة إلى فندق «صفوة الغفران» المجاور لأبراج الساعة والذي يطل على أحد أبواب الحرم المكي وباحته الخارجية التي لا تتوقف فيها موجات المعتمرين ليل نهار وسط الأنوار الساطعة ليلاً ومشاهد الأفواج البشرية التي أتت من كل فجٍ عميق، وقلوبُها متطلعة نحو أبواب الحرم، وعيونها متوهجة لامعة بالفرح وهي تقترب من معانقة البيت المبارك، ملبية نداء خالقها «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لكَ لبيك، إنَّ الحمدَ، والنعمةَ، لكَ والمُلك، لا شريكَ لك». وما أن تسلمنا غرفتنا في الطابق الخامس حتى جاء هاتف متعهد العمرة وهو يستعجلنا للنزول إلى الباحة الخارجية لننتظم مع صف المعتمرين الآخرين في الحملة. كانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ورغم أن التعب وتأخر الوقت قد أخذ منا مأخذاً، إلَّا أن الشوق لتلك اللحظة الروحية التي تُكَحَلُ فيها الأعين برؤية الكعبة ينسيك كل ما يلهيك عنها، بل وينسيك أي شعور بالإرهاق، أو الإحساس بالحاجة للنوم والراحة، وكيف ترتاح وقد نويتَ، وأحرمتَ، وتوضأتَ، والتزمتَ بنسك الإحرام، وفي الميقاتِ لبيتَ؟، بل وكيف تأتيكَ الحاجة للنوم، وموعدك لتلبية نداء ربك قد حان، وما بينكَ وبين بيته الحرام ليس سوى خطوات؟.
خطواتٌ تخطوها، وروحك في سكينة واطمئنان، وقلبُكَ ما بين وجيفٍ ورجيف، فَرِحٌ باللقاء مثل عاشقٍ مَكلوم، خائفٌ مثل مذنبٍ مَحموم، فما عساكَ أن تطلب وتقول وأنتَ تطوف وقد أصبحتَ قطرة صغيرة بين موجات مُنتَظَمة من البشر، بسحناتٍ متباينة، وألسنة متعددة، تدور وتتوحد عند الطواف كأنها جسدٌ واحدٌ، وصوتٌ واحدٌ: لبيكَ اللهُم لبيك.