يتنامى الجدل في تونس حول الاستحقاق الانتخابي الرئاسي القادم ، وقد قارب اليوم عدد الراغبين في الترشح المائة من مختلف المشارب السياسية والفكرية والمجتمعية ، وهو رقم كبير ويدلّل على الأهمّية القصوى لهذا المنصب الذي يحتلّ المكانة المحورية في النظام السياسي التونسي ويؤشّر أيضا على أنّ هذا الاستحقاق الإنتخابي وصل صداه إلى مختلف شرائح المجتمع التونسي .
والمفارقة أنّه ، وبالتوازي مع إنتشار وتوسّع الاهتمام بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي شعبيا ونخبويا ، لوحظ غياب شبه كامل لنشاط النخب السياسية والحزبية ، ويُرجع الملاحظون هذا الغياب والتخلّي إلى عوامل ثلاثة ، أوّلها أن هذه النخب لم تستطع تطوير خطابات وبرامج قادرة على استقطاب عموم التونسيين رغم ترسّخ وتوسّع هامش الحرية منذ 14 جانفي 2011 ، وثاني هذه العوامل مرتبط بالمناخ السياسي العام الذي تميّز بالانكماش والتردّد وحتّى الخوف جرّاء استعمالات مفرطة لبعض القوانين ذات الطابع الجزري ومنها المرسوم 54 ، وثالث العوامل هو قناعة الرئيس التونسي قيس سعيّد أنّ تونس تحتاج إلى قطيعة تامّة مع ماضيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، ما يُشرّع له إستعمال الوسائل القانونية والسياسية التي بحوزته ويحتكم عليها من أجل « تجنيب الوطن والمواطن ويلات الماضي « ، وهو تصوّر لا يُحظى بإجماع التونسيين الذين يعتقدون أنّ عملية الفرز في المنظومة الديمقراطية، أيّ ديمقراطية، هي الانتخابات والاحتكام إلى قرار المواطن عبر صندوق الاقتراع.
وإذا كان الشقّ الرئاسي يعتقد أنّ الرئيس قيس سعيّد مُؤْتَمَنٌ على نتيجة تضمن القطع الجدري مع الماضي ، وهو لذلك تقدّم بخطوات في اتّجاه تنفيذ تصوّراته وذلك من خلال وَضْعِ شروط ترشّح تبدو صعبة التطبيق وأحيانا يراها البعض مجحفة ، فإنّ الطرف المقابل إكتفى إلى حدّ الآن بالترقّب في انتظار حلحلة للوضع بشكل يفتح طريق الانتخاب أمام الجميع ليبقى الفيصل هو صندوق الاقتراع .
ويبرّر مناصرو هذا التصوّر بأنّ المواطن التونسي إكتسب مع مرور السنوات درجة من الوعي تخوّل له التمييز بين الغثّ والسمين وهو لذلك مؤهّل كي يحسم بين مختلف البرامج والشخصيات المتنافسة حول منصب الرئيس .
إنّه، وإن كان إنتظار وترقّب وتردّد وخوف أغلب النخبة في تونس هو جزء من سلوكها الانتهازي التي ميّز غالبية مكوّناتها وخصوصا بعد موجة الربيع العربي ، فإنّ التساؤل الأكبر تمحور حول سلوك بعض منظمات المجتمع المدني وخصوصا الاتحاد العام التونسي للشغل ( اتحاد العمّال ) الذي دأب على لعب الدور الوطني المنوط به عند الاقتضاء .
وتقديرنا الأمر أنّ هذه المنظمات وتحديدا اتّحاد العمّال مدرك تمام الإدراك لما هو مطلوب منه وهو يعلن مواقفه للعموم تباعا وهي مواقف تعكس ما يعتمل داخل هياكله من آراء ومقترحات وبرامج في إطارٍ من الديمقراطية والشفافية.. ومنذ مساندته اللامشروطة لقرار الرئيس التونسي قيس سعيّد بحلّ البرلمان السابق ، ما انفكّ يؤكّد أنّ الشعب التونسي حسم أمره بصفة نهائية في علاقة بعشرية حُكْمِ حركة النهضة الاخوانية وأنّ تونس تستحقّ حياة أفضل ، يطيب فيها العيش وتُضمن فيها كرامة الفرد وتتقلّص فيها الفوارق المجتمعية وتسود فيها قيم الحرّية والديمقراطية، وهو مسار مثّل بوصلة الاتحاد ومنظمات المجتمع المدني، وعلى أساسه بنيت التحالفات الوطنية والمواقف السليمة
إنّ الانتخابات الرئاسية التونسية المقبلة هي مجال الفوز بين الجديد الذي لا يقطع مع ايجابيات الماضي والمستقبل الذي يريده التونسيون مشرقا قوامه القطع مع الاستبداد بكلّ أشكاله.