تحكي صفحات كتاب «قصة مدينة» لمؤلفه هارون هاشم ما مر على غزة من أقوام وغزوات وحروب وحوادث ومجازر بشرية متواصلة منذ نشوئها قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، وهي تعد بذلك واحدة من أقدم مدن العالم، كما أنها بلدة كنعانية عربية، وهي بوابة فلسطين، وبوابة مصر وحلقة الوصل بينها وبين الشام. وعندما قام نابليون بحملته على مصر، وصف غزة بقوله « إنها المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا» إشارة لأهمية موقعها الجغرافي الفريد، قبل أن يدخلها مع الجيش الفرنسي ليمكث فيها أربعة أيام ثم يغادرها متجهاً إلى يافا في آذار عام 1799.
وما نراه اليوم في غزة التي تتعرض منذ عشرة أشهر لحرب إبادة جماعية من قبل القوات الإسرائيلية، ومحاولات تهجير سكانها باتجاه مصر وصحراء سيناء، ليس أمراً جديداً عليها، ففي حرب الـ 56 « العدوان الثلاثي على مصر» قام الصهاينة بمجازر بشعة في خان يونس ورفح أكبر مدن غزة وفي معسكر اللاجئين بالمدينة، ويصف الكتاب هذه المجازر بالقول « كانت الجثث تتكاثر بالطرقات فيؤمَر المارة بإزاحتها إلى خلف البيوت، على أن حظ من كانوا ينقلون هذه الجثث، لم يكن بأحسن من حظها، فما يكادون يطرحونها في الأمكنة التي يؤمرون بنقلها إليها، حتى يُطلق عليهم الرصاص فيخرون صرعى فوقها «. كذلك طلبت القوات المحتلة من المدنيين بعد كل هذه المجازر وعمليات الترويع والاذلال والنهب وسرقة البيوت والاعتداء على العزل، مغادرة المدينة.
وفي حرب حزيران 1967 قاومت غزة سلسلة من الهجمات الإسرائيلية بدأت منذ صباح اليوم الأول للحرب، قبل أن تتمكن من احتلال القطاع بأكمله مساء السابع من حزيران، لتطلب من المدنيين هذه المرة أيضاً مغادرة المدينة، غير أن المقاومة الشعبية المسلحة تمكنت من احباط مخطط افراغ غزة من سكانها وتم رفع شعارات تدعوهم للبقاء على أرض الوطن تحت كل الظروف مثل « الهجرة خيانة وطنية «، و « الوطن أو الموت «، و» لن نتحول إلى لاجئين من جديد».
يبتدئ كتاب « قصة مدينة « الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – الألكسو – ضمن سلسلة مدن فلسطينية، ببيتين للإمام الشافعي تحت عنوان» شوق» :
وإني لمشتاق إلى أرض غزة
وإن خانني بعد التفرق كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بتربها
كحلتُ به من شدة الشوق أجفاني
ما بين عصر الشافعي المولود في مدينة غزة عام 767 ميلادية، وحملة الإبادة الجديدة لسكانها لإرغامهم على هجرتها أكثر من ألف ومائتي عام، وما بين شوقه لمسقط رأسه، وصمود اهاليها الابطال وتضحياتهم، بحور من الدماء والموت والخراب لإرغامهم على الهجرة، لكنهم متمسكون بالبقاء أو الموت، ولا خيار آخر لهم غير الوطن في مدينة اختارت أن تقاوم حتى الرمق الأخير، وأن تدفع أثماناً باهظة على مذبح الحرية والحق والكرامة، لتضيف درساً معاصراً إلى دروس التاريخ التي سجلت كفاح الشعوب وتضحياتها على طريق الانعتاق والخلاص من العبودية تحت حراب العدو الغاصب الذي لا يفهم غير لغة القوة والمقاومة التي ترفض الاستسلام حتى النصر أو الشهادة . إنها قصة مدينة لا تشبه مدينة أخرى، وحكاية شعب عصي على الزوال والفناء .