رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
بعد أن أثبتت أن نسبة النشاز في صوتها لا تتعدى الواحد في الألف أم كلثوم.. ظاهرة جمالية مستدامة بكل عذوبتها صوتاً وألحاناً للتراث العربي الشرقي الأصيل


المشاهدات 1167
تاريخ الإضافة 2024/07/22 - 8:33 PM
آخر تحديث 2024/07/27 - 2:53 PM

الأجيال العراقية ومنها نحن حينما كنا طلابا في معهد وكلية الفنون الجميلة ببغداد، والتي عاشت فترة غناء سيدة الطرب العربي أم كلثوم حينما تنقلها إذاعة القاهرة ، او ممن كان يذهب لمقهى ام كلثوم في الميدان  ليمضي ساعة أو اكثر فوق مصاطبها الخشبية، كان المهم أن ننصت لها مع فرقتها  الموسيقية  الذين أسعدونا، وخصوصا حينما تكون الكلمات من أشعار بيرم التونسي وأحمد رامي وما سبقهما أو لحق بهما من شعراء ملأوا اذواقنا متعة وسعادة، لا سيما أم كلثوم التي بقيت لأكثر من نصف قرن تطربنا، ليس فقط بجمال صوتها وقوته وإنما لإحساسها المرهف، وقدرتها الفائقة على تجسيد أجمل ما كتبه الشعراء، سواء بالفصحى أو العامية، وهي حالة لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الغناء العربي.
ثم إن أم كلثوم استطاعت في أغنية «إنت الحب» أن تعبر عن حبها لكن دون قهر. حتى أنها تضيف أن أم كلثوم هي المرأة العربية الوحيدة» التي استطاعت أن تمزج بين الحب والقوة.إذا ما كانت الأجيال السابقة تنظر أيضا لأم كلثوم على أنها امرأة حرة متمردة، فعدت الكاتبة المصرية نوال السعداوي التي قالت «جزء من شخصية ثومة كان متمردا، لكنها لم تستطع أن تعلن ذلك مجتمعيا لأنها كانت تريد أن تمسك العصا من المنتصف حتى لا تغضب أحدا».
لم تنقطع محبتنا بأم كلثوم رغم انحياز قطاع كبير من الشباب إلى غناء عبد الحليم وفايزة أحمد وشادية ونجاة وفيروز وغيرهم من الفنانين الذين راحوا يدخلون الساحة الغنائية، ربما بألوان جديدة أقرب إلى ذائقة الشباب، ومع منتصف سبعينات القرن الماضي رحلت أم كلثوم (٣ فبراير ١٩٧٥)، مخلفة وراءها تراثا عظيما من الغناء، وقد شاهدت يوم وفاتها مقدار الحزن الذي عم المدن العربية ، وقد شعر الناس في طول البلاد وعرضها بأنهم قد فقدوا رمزا كبيرا كان مصدر سعادتهم، فقد أمدهم بقدرة فائقة على مواصلة الحياة، وتجاوزهم لهمومهم وأحزانهم، ، أعتقد أن غناء أم كلثوم كان سببا قويا لتجاوز المحن وألم الفراق، على شباب ذهب إلى الحروب العربية المتكررة ولم يعد. كانت هذه هي أم كلثوم كما عشنا معها وعاشت معنا
تمثل زيارة كوكب الشرق الفنانة الراحلة أم كلثوم، لأبوظبي في عام 1971، لإحياء احتفالات الإمارة بعيد الجلوس الخامس للمؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وبقرب بزوغ فجر دولة الإمارات العربية المتحدة، حدثاً تاريخياً وثقافياً مهماً، إذ تعكس هذه المناسبة الفريدة رؤية الشيخ زايد واستراتيجيته في بناء الدولة منذ البداية، إذ لم يغب عنه، في خضم أعباء تأسيس الدولة، البُعد الثقافي الذي يبرز الدول بهويتها الخاصة وتراثها المميز، وفق ما أوضح سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير ديوان الرئاسة، في تقديمه لكتاب «أم كلثوم في أبوظبي»، الذي يوثق لهذا الحدث، والذي أصدره الأرشيف والمكتبة الوطنية بالتزامن مع الاحتفال بـ«عام زايد» في 2018.
ونظراً لأن المسارح الموجودة في مدينة أبو ظبي آنذاك كانت مسارح دور سينما وأكبر قاعة كانت لا تتسع لأكثر من مئات من المشاهدين، بينما كان عشاق أم كلثوم بالآلاف، لذا أنشئ مسرح مؤقت على أرض النادي الأهلي (الذي أصبح في ما بعد نادي الوحدة) وفي زمن قياسي لا يتعدى ثلاثة أسابيع شيد المسرح وأعد لتكون طاقته الاستيعابية آلاف الأشخاص.
ورغم أن أم كلثوم اعتادت أن تحيط حياتها الخاصة بسياج حديدي، ما جعلها في مواجهة مع الشائعات والحكايات المنافية للحقيقة، وبلغ الأمر حد الإساءة والتطاول على أحد رموز الفن العربي، وزعم البعض أنها ارتبطت بعلاقات حب متعددة، وتبين أنها محض أكاذيب، والحقيقة أنها كرّست حياتها للغناء، وسمت بشدوها فوق الوشايات. 
وكان الرجل الأول في حياة “كوكب الشرق”، هو الشيخ عبد الرحيم، أحد أصدقاء والدها، الذي تزوج منها بشكل صوري، حتى تتمكن من السفر لإحياء أربع حفلات في العراق، ووقتها كان القانون يمنع سفر الفنانات غير المتزوجات للخارج، واضطرت لتلك الحيلة لتتمكن من السفر، واستمرت هذه الزيجة ثلاثة أسابيع وهي الفترة التي قضتها أم كلثوم خارج مصر. 
كما وتناثرت روايات مفادها أن الشاعر أحمد رامي، وقع في غرامها من أول لقاء، واتخذ على عاتقه مهمة كتابة ما يشعر به في أشعار تجسدها بصوتها، لكنها لم تستجب لحبه، فاضطر للزواج من إحدى قريباته، على أن يظل قلبه عاشقاً لأم كلثوم. وعندما سُئلت عن حب رامي لها، قالت: “أعلم أن رامي يعشقني، وكتب فيّ من القصائد ما لم يكتبه شاعر قديم في حبيبته، لكني إذا تزوجته فستنطفئ نيران الشعر في أعماقه”. 
ثم اكتمل أشهر ثنائي فني في حياة كوكب الشرق، بتعاونها مع الموسيقار محمد القصبجي، الذي جسّد حبه لها في ألحانه، وفي موافقته على الجلوس خلفها في حفلاتها وفي يده العود، والحقيقة أنه ارتضى أن يعيش صامتاً في حبه ولا يرغب إلا في البقاء بجانبها، فهو لم يتحمل فراقها رغم رفضها عدداً من ألحانه.
لذلك تعكس أم كلثوم بكل عذوبتها صوتا والحانا رمزية الشرق الأصيل فنيا، وقد بدأت كوكب الشرق أولى مسيرتها الفنية مع الإنشاد الديني من ابتهالات ومدائح وتواشيح منذ سن صغيرة، وأمضت زمنا تمارسه بشكل شبه يوميّ، ولذلك يبدو النفس الصوفي جليا في أغانيها من خلال اهتمامها بمخارج الحروف وتواتر نسق الإنشاد/الغناء. وقد كتب المؤلف الموسيقي الانكليزي الشهير دينيس جراي: «إن صوت أم كلثوم فيه عمق حضارة الشرق وهو تلخيص لتاريخ الحضارة الموسيقية الرفيعة التي انطلقت عن طريق فناني وعلماء العرب إلى أوروبا»
كانت أم كلثوم تغنّي لمدة قد تصل إلى سبع أو ثمان ساعات متواصلة، معتمدة على التوافق العاطفي والإنساني مع المادة المغنّاة والجمهور. وفي هذا الإطار، يقول إسماعيل الفايد «لم يكن أحد في عشرينيّات القرن الماضي يتخيّل أن تقوم مغنيّة بغناء أغنية واحدة على المسرح لمدة تزيد عن الساعة، تقوم فيها بأداء أغنية عن ظلم الحبيب كأنها أغنيّة عن الوجد الصوفي، مستخدمة ملامح وأساليب الإنشاد الديني كإطار تقني وأدائي وتنجح دون أن يكون هناك التباس أو تشويش لجماليّات كلا التجربتين».
لقد حاول العلم أكثر من مرة فهم فردية صوت أم كلثوم وتقديم إجابات علمية مجردة تفسر هذه الهالة العظيمة التي تحيط بها رغم رحيلها منذ عقود. وكانت البداية في سنة 1975 عندما أجريت تجارب علمية لقياس نسبة النشاز بين الأصوات المصرية المعروفة. وقد أثبتت التجربة أن نسبة النشاز في صوت أم كلثوم لا تتعدى الواحد في الألف من البعد الطنيني الكامل، وهي درجة لم يسبق لأي مطرب أو فنان أن بلغها حتى هذه اللحظة. ثم بعدها بسنوات أكدت تجربة أخرى أن صوت أم كلثوم هو أكثر الأصوات العربية انطباقا على السلم الموسيقي في معادلاته الرياضية، وقد أثبتت هذه التجربة أن أعلى ذبذبة بلغها صوت إنساني هو صوت أم كلثوم عندما وصل إلى 3966 ونصف الذبذبة في الثانية الواحدة
 وفي النهاية، لنتوقف للحظة يا سادة عند هذا الجمال الصوتي لندرك عظمة هذا الصوت ولا شك أيضا أن أجمل الأصوات الفنية اليوم لا يستطيع مقارعة أم كلثوم في أداء مقطع واحد لأغنية «الأطلال» أو «ألف ليلة وليلة»، فالكثير من الأدباء والسياسيون والفنانون والشعراء دون استثناء تحدثوا عن أم كلثوم التي طبع صوتها مرحلة مميزة في جيل الخمسينات والستينات والسبعينات.
 لكن السؤال المهم الذي يقال اليوم وربما غدا، ما الذي يميز صوت أم كلثوم عن غيرها من الأصوات، ولماذا لا زالت أغانيها تتمتع بهذا السحر رغم مرور أكثر من خمسين سنة على ظهورها؟ وما هو رأي العلم في تفسير هذه الظاهرة الصوتية الفريدة؟


تابعنا على
تصميم وتطوير