مات السؤال؟ نعم... لا تسأل أحداً بعد اليوم. حتّى الأطفال يتأبطون وسائل التواصل يهشّمونها وقد لا يسألونك. غريب مع أن الأطفال كانوا أبداً ينابيع الأسئلة المتكررة للكبار مخازن الأجوبة صحيحة أكانت أم لا.
لا تسأل أحداً عن أيّ شيء. انقر على جوّالك واطلب لتُفتح خزّائن الذكاء المتخمة بالإجابات والصور والشروح، فتُدرك وحيداً كلّ شيء عن أي شيء. عصر من القوة الخفية الرقابيّة والناعمة الذكيّة الجذّابة المتحكّمة بأجيالنا وبمنازلنا وحاجاتنا وثقافاتنا وبالسلوك البشري العام تعلّمنا حتى كتابة الموسيقى فوق السلالم والرقص عليها وتبيعنا «الروبوتات» لتساعدنا حتى على تنظيف بيوتنا ورخاء العيش بحثاً عن مفاتيح التطبيقات، حيث الصدفة أحياناً هي مدرسة المعارض والقرار.
يعرفون عنّا كلّ شيء ويفعلون كلّ شيء وقد لا نعرف كثيراً عن برامجهم وأفعالهم. من هم؟ لا مكان لسؤال تافه مشابه. يجايلوننا بحاضرنا ومستقبلنا وبنعومة مغرية إذ نلعب متصفّحين العالم لعبةً. يتحكّمون بسلوكنا لحسابات الآخرين الذين يجعلوننا سلعاً لأرباحٍ لا هويات لها. أُتابع التنظير في الذكاء الاصطناعي يُثقلنا في المجال إلى حدود التخبط التربوي في توصيف التغيير والجنوح السياسي للقول بالاستبدادية الرقمية في السلطات المعرفيّة الهائلة للسلوك البشري. نقرأ ارتجالات فظيعة في توصيف بل جمع السلوك البشري في المجال فيعلّقون على طفل يتأبط الجهاز صارخين فرحاً: خارق...جابها على «الليبرا». هذا ترداد معاصر لما كان يتلفّظ به أجدادنا ومعلمونا لصغير خارق الذكاء: كفى... «جابها ع الليبرة».
مات السؤال مع أنّه هو الحياة بينما الجواب هو الموت، إذ تمتلكه ينطفئ بريقه. أصمت وانزلق ع «الليبرا» نحو «أودية السيليكون»، حيث المعارف وقد فتح أبوابها الطالب مارك زوكربيرغ رائد قادة الثورة الرقمية في الجامعة منذ التسعينيات ليُعبّد العصر الرقمي بتراثٍ هائلٍ متجدّد أبداً:
من له الحق بالاطّلاع على الحقائق الجديدة في هذا العالم والخصوصيات حول الأفراد؟ ومن له الحق بالقرار وسلطاته؟ ومن له الحق بتوظيف هذه السلطات في العالم؟
أُذكّر بظاهرتين قبضتا على الانتباه الواسع بعدما أعلن «مارك زوكربيرغ» على صفحته الخاصّة (2019/6/17) إطلاق عملة رقميّة جديدة عام 2020 أسماها ليبرا Libra بصفتها بُنية ماليّة عالمية تسمح للبشرية التداول بها وقد بدأت بمشاركة 27 مؤسّسة كبرى حول العالم. كان الهدف إتاحة الفرص لمن ليس لديهم حسابات في المصارف ويخشون نقل العملات في تحرّكاتهم، بالنقر على تطبيقات «الفيسبوك» و«الواتس آب» و«إنستغرام» وغيرها عبر أجهزة التواصل للتمكّن من شراء حاجياتهم. بدت الظاهرة جذّابة وكأنها حاجة خامسة تُضاف بل تسبق الحاجات البيولوجية الأربع أعني: الأكل والشرب والنوم والجنس.
هكذا نقول اليوم: ينخرطون في رسم حركة الأسواق في العالم وتسييرها. من هم؟ لا جواب حسي إذ لا نعرفهم ولا حاجة لمعرفتهم. المهم حاجتنا نحن.
تعالوا نذهب مع ليبرا إلى سؤالين: أوّلهما لغويّ نجد جوابه أوّلاً في لسان العرب حيث تعني ال«ليبرا» أو«ليبرة» الدٌّقة والعدالة والمساواة بين كفّتي ميزان وثانيهما يأخذنا نحو العراق قبل الخرائب، فإذا به مهد الخوارزميات Logarithmes عنوان العصر الرقمي الحالي، الذي أسّسه ودمغه باسمه أبو عبد الله الخوارزمي في الجغرافيا والرياضيات والفلك وأنجز أبحاثه في دار الحكمة التي أسّسها المأمون في بغداد بين 813 و833م.
اللوغاريتم شهرة الخوارزمي الذي رسم أوّل خريطة للأرض بمساعدة سبعين جغرافيّاً.
لنتذكّر سويّاً الحرب التي شنّها الرئيس الأمريكي السابق ولربّما القادم دونالد ترامب على شركة «هواوي» وشركات الاتصالات الصينية بل العقوبات التي اتخذها بحقها وحاول فرضها على حلفائه في أوروبا. وتدفّقت الإجراءات القاسية من قبل شركات أمريكية عملاقة مثل «غوغل» و«فيسبوك»، ليندهش العالم إن كان وراء هذه العقوبات نشوب حروب اقتصادية وسياسية بين الصين والولايات المتحدة أعقبها اعترافات بأنّها حروب خاسرة لأنّ الصين انطلقت نحو العصر الرقمي ولم يَعُد سهلاً ضبط التقدّم التكنولوجي الذي حقّقته.
بَنت «غوغل» نجاحها على مرآةٍ من دون قعر ظهرت عبرها البشرية في مستويين من الرقابة والمراقبة في تقنيات جديدة وبسرّية مطلقة بين ال2000 وال2004. ومع دخول البورصة إلى «غوغل» في ال2004، أدرك العالم أنّ هذه التطبيقات تسمح له بأن يضاعف أرباحه إلى نسبة 3590 في المئة التي اعتبرت انقلاباً تاريخيّاً في تحقيق الأرباح. وسرعان ما أغرت الرأسمالية الرقابية «فيسبوك» الذي فرض نفسه النهر المتدفق لتكديس المعلومات وإسقاطها في وادي السيليكون. توسّع هذا الأنموذج بمعانيه الاقتصادية ليطاول مختلف القطاعات التي تهمّ الجميع في عصر تجميع المعلومات التي تبدأ ببطاقات الهوية والتفاصيل الشخصية مروراً بالصحة وأسواق المال وقطاعات التسلية والتربية الرأسمالية التي سرعان ما ظهرت تحت أعيننا لعبة شهرةٍ نرمي عبرها حياتنا وتواريخنا فيخضعها غيرنا للتحليل والتجارة التي لم يبلغها البشر من قبل في إمكانية السيطرة وكسب الأرباح. هكذا بلغ «فيسبوك» إتاحة الفرص للمعلنين اليوم من تدوين اللحظات الدقيقة التي يظهر فيها المراهقون في العالم وقد ملكوا زمام الثقة بأنفسهم وقدراتهم، ليزرع أمامهم بضائع ومقتنيات وأفكاراً إعلانيّة تضج بالإغراء الحاسم.
drnassim@hotmail.com
نقلا عن « صحيفة الخليج «