عادت أجواء التوتّر بين الدول بشكل واضح بما جعل شبح الحرب الباردة يخيّم من جديد على العلاقات الدولية وبعدما أصبح تعدّد الأقطاب واقعا ملموسا ، ومع إنتهاء المرحلة الانتقالية التي إمتدّت منذ سقوط جدار برلين وتهاوي الاتحاد السوفياتي السابق وإلى الآن .
وتؤشّر المعطيات الجيوسياسية الجديدة إلى أنّ مشهد العلاقات الدولية هو بصدد إعادة التشكّل على نَحْوٍ تدفع فيه بعض الأطراف الدولية إلى وَضْعٍ متفجّر يكون طرفاه ، الأنظمة الديمقراطية الليبرالية من جهة والأنظمة الأخرى على إختلافها فيما يبدو .
ومن جديد يعود بقوّة لافتة المعيار الغربي لتصنيف الأنظمة والدول وتعدّدت في هذا المجال المساعي والمحاولات والسياسات الغربية الضاغطة على مختلف الدول من أجل الانخراط الأعمى في المنظومة الليبرالية، وغالبا ما يكون التعاون الاقتصادي والسياسي مشروطا بضرورة الاصطفاف القيمي والسياسي لهذا الغرب الذي إستقرّ رأيه على إعادة إنتاج وتكريس واقع الإستعمار من باب الاصطفاف “الديمقراطي” إلى “نادي الحضارة “ الغربي.
ويحذّر المحلّلون والمراقبون من أنّ هذه السياسات الغربية غذّت بشكل كبير نزعات اليمين المتطرف والشعبوية في عديد الدول والمجتمعات وطوّرت لديها اتجاهات نحو تحقيق شكل من الإكتفاء الذاتي يحصّنها ضدّ التبعية والانصهار في منظومة غربية ليبيرالية قد تتعارض مع مصالحها الوطنية ومع موروثها القيمي والحضاري .
وغير خافٍ أنّ الانطوائية وسياسة الإكتفاء الذاتي تقلّص بشكل كبير فضاءات ومجالات التعاون بين الدول والمجتمعات وهي إلى ذلك أقصر السُّبل إلى نظام تتناقض فيه الأقطاب، ولا تجد هذه التناقضات الإطار الدولي المناسب لتجاوز المشكلات المترتّبة عنه ، خصوصا بعد تراجع أداء منظمة الأمم المتحّدة وعجزها المتواصل على فرض سطوة القانون الدولي على بعض الدول والنأي بالعالم عن النزاعات والحروب .
وفي مقابل ذلك، وأمام التعنّت الغربي في فرض موديل إقتصادي واجتماعي وسياسي غربي، لا يأخذ في الإعتبار مصالح الدول الأخرى وخصوصياتها الثقافية والحضارية، بدأت ملامح تشكّل أقطاب رافضة لهذا المنحى الأحادي التسلّطي الغربي، ومن ذلك ظهور مفهوم “ الجنوب الشامل “ الذي من تعبيراته ونتائجه ولادة منظمة “البريكس” .
ورغم أنّ دول الجنوب تختلف أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا تجمعها وحدة ايديولوجية معيّنة إلّا أنّ الخيط الجامع بينها هو رفض التسلّط الغربي والأمريكي تحديدا .
وللأسف فإنّ الحروب رجعت بقوّة نتيجة ضعف الأداء الجماعي في منظمة الأمم المتّحدة وجرّاء العودة المدمّرة لمنطق القوّة، وهو ما جعل شبح الحرب الشاملة يخيّم من جديد على العالم .
إنّنا في عالم متحرّك ومتحوّل ولا يبدو أنّ دولنا على قدر كبير من استيعاب ما يجري فيه مساهمة وحتّى مجرّد المواكبة الذكية وذلك لسبب بسيط للغاية وهو أنّنا أهملنا منذ أمد طويل الإشتعال على المستقبل إنطلاقا من كسب تحدّيات الحاضر، نحن نعيش في عالم هلامي وغير موجود ولا يفي بحاجاتنا الأساسية من أجل عيش كريم وحرّ، وفي قطيعة تكاد تكون تامّة مع المتغيّرات الجيوسياسية على مستوى العالم.