د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي
ينادونه العم احتراماً ومحبة، والأخ الكبير، والأستاذ القدير، وشيخ النقاد، وعميد التراثيين، ذلك أن باسم عبد الحميد حمودي الذي ينوء بثقل 87 عاماً لم ينقطع يوماً عن قلمه وقرائه وبحوثه التراثية وكتاباته النقدية، والأهم من ذلك كله انه لم ينقطع عن أحبته وزملائه وتلامذته، وتواصل مع الأجيال الجديدة من الكتاب والصحفيين والادباء الشباب بذهنية منفتحة وكأنه واحداً منهم. ومنذ مقالته الأولى التي نشرها في العام 1954 تحت عنوان « الفراغ « لم يبق حمودي لمفهوم الفراغ معنى في حياته، فملأ الدنيا نتاجاً ونشاطاً وعطاءً أدبياً وثقافياً وفولكلورياً وإنسانياً على امتداد أكثر من سبعة عقود متواصلة.
في كتابه الجديد الفخم « أكثر من 500 صفحة من القطع الكبير» الصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب، يقدم حمودي ما يشبه الموسوعة الفولكلورية تتضمن أكثر من مائة وثمانين مقالاً توزعت على موضوعات متعددة في التاريخ العراقي، والفولكلور البغدادي، وتناولت العديد من الأسماء التي أسهمت بإغناء المشهد الثقافي العراقي في مختلف صوره وأشكاله وميادينه وفنونه، فولكلوراً وتراثاً ونصوصاً وغناءً ورقصاً وسحراً وشخوصاً ولغة وطعاماً وحكايات شعبية. وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب: «العراقي دكتور داهش في صندوق الولايات» يشير إلى حكاية غريبة تخص العراقي سليم موسى العشي الشهير بلقبه « الدكتور داهش»، فإن صفحاته تأخذ القارئ بعيداً ليتعرف على تفاصيل وحكايات طريفة من الفولكلور البغدادي وكتابات المهتمين والمشتغلين بالتاريخ والتراث من أمثال احمد مطلوب وكاظم سعد الدين وعلي الوردي والباحث التراثي حسين علي الحاج حسن وحضيري أبو عزيز وجعفر الخليلي وكاظم الدجيلي ومحسن مهدي وبغداديات طارق حرب وجليل إبراهيم العطية وعز الدين مصطفى رسول وزهير العطية وسامي سعيد الأحمد وعادل الهاشمي وعاشق بغداد عزيز جاسم الحجية وعريان السيد خلف ونبيهة عبود وقحطان المدفعي ولميعة عباس عمارة ومحمد علي القصاب ومصطفى جواد وناجية المراني ونبيل الربيعي وشفيق مهدي ورائدة فن الطبخ الحديث نزيهة أديب وغيرهم الكثير.
لكن من هو» العراقي» دكتور داهش الذي خصه حمودي بعنوان كتابه هذا؟، وما غرائبه في مجال سيطرة السحر على الفكر وألاعيب التقمّص حتى أصبح يمثل ظاهرة روحية غريبة، وهو الذي أسس كذلك متحفاً وأصدر مائة وخمسين كتاباً ؟. الغريب ان « داهش العراقي الأصل لم يرَ العراق بل ولد في بيت لحم قبل أن يكون عراقياً «!. يشرح المؤلف ذلك اعتماداً على ما يقوله جورج غانم: اكتشفت أن سليم العشي الشهير بالدكتور داهش يمتّ لي بصلة ما، فهو أساساً من بلاد النهرين ووالده «موسى العشي» ووالدته « شموني حنوش» من سريان العراق وقد هاجرا بعد زواجهما عام 1906 إلى فلسطين ليسكنا «بيت لحم» طلباً لبركة السيد المسيح عليه السلام. ويأتي لقب «العشي» تحريفاً عن « أليشي» وهي تسمية النبي « اليشع» أو «يوشع». وقد كتب الكثير من الكتاب ورجال الصحافة عن داهش و» الداهشية « كظاهرة روحية تدعو إلى الروح ملاذاً وإلى «الدين» الإنساني الواحد، ومنهم جبرا إبراهيم جبرا وهو أيضاً مثل داهش من بيت لحم قبل أن يكون عراقياً، وقبل ذلك كتب عنه المصري محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد ورواية زينب، وانتحرت الرسامة ماري حداد من أجله، كما شهد الاعيبه السحرية العلامة عبد الله العلايلي الذي تعرض لعملية التنويم المغناطيسي على يديه، مثلما شهدها الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي خلال اقامته بفندق فاروق في بلدة المتن بجبل لبنان. وأخيراً استقر العشي في نيويورك قبل أن يتوفى في أحد مصحاتها عام 1984.
« العراقي دكتور داهش في صندوق الولايات» من أمتع الكتب التي أصدرها الكاتب الفولكلوري والناقد الأدبي باسم عبد الحميد حمودي، إنه يمثل خلاصة قراءات كثيرة، وخبرات نقدية، وتجارب واقعية، ومعرفة تراثية واسعة، ورؤى ناضجة، جمعها العم باسم بين دفتي هذا الكتاب ليقدم للقراء ولبغداد وللفولكلور العراقي هدية لا تقدر بثمن .
نقلا عن «صحيفة المثقف»