لم تكن العلاقات بين الرباط و باريس في حاجة إلى فرصة جديدة للتأكيد على أنها ليست في صحة جيدة ، و أنها تعيش فترة أزمة منذ مدة .و لكن مع ذلك فإن فاجعة الزلزال التي هزت المغرب مؤخرا كانت مناسبة أخرى للتأكيد على أن العلاقات بين البلدين تواجه أزمة تكاد تكون غير مسبوقة في التاريخ الحديث .
باريس ، و كانت هذه المرة أيضا مدججة بوسائل إعلام معينة و بنخبة يمينية متطرفة ، لم تستسغ رفض الحكومة المغربية الرد بالإيجاب على العرض الذي قدمته لتقديم مساعدات تقنية و إنسانية لضحايا الزلزال ، و شنت بسبب ذلك حملة عنيفة جدا ضد المغرب . و لا يجد الملاحظ و المتابع من سبب لتفسير و فهم ردة الفعل هذه ، غير القول بأن باريس شعرت بإهانة كبيرة كقوة عظمى ، من رفض دولة في حجم المغرب العرض الفرنسي ، في حين وافقت الحكومة المغربية على عروض مماثلة من بريطانيا و إسبانيا و قطر و الإمارات العربية المتحدة .و الحقيقة التي تعمدت تلك الأوساط الفرنسية إخفاءها تتمثل في أن المغرب لم يرفض العرض الفرنسي فقط ، بل لم يتجاوب مع أكثر من ثمانين عرضا تلقاها من مختلف دول العالم ، بما في ذلك عروضا من الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا و ألمانيا و غيرها كثير جدا .و كشفت مصادر رسمية في هذا الصدد أن السلطات المغربية المختصة قامت بدراسة عميقة للحاجيات المترتبة عن الزلزال ، و وافقت على ما رأته ملائما و ملبيا لهذه الحاجيات ، و أن المغرب قادر بإمكانياته البشرية و التقنية على مواجهة ما ترتب عن الكارثة . و غير محتاج لكل هذه الكمية الهائلة من العروض ، و أن جهات أخرى في العالم قد تكون الأجدر بها .
الأوساط الفرنسية الرسمية و اليمينية ، و أخرى تتفاعل مع القضايا المتعلقة بالمغرب بخلفيات إيديولوجية معينة ، نحت بهذه القضية نحو التسييس المفرط ، بأن أكدت أن الأمر يتعلق برفض يمثل موقفا سياسيا من فرنسا ، و أنه يندرج في صلب و عمق الأزمة الحادة التي تعيشها العلاقات بين البلدين .في حين أجمعت الأوساط الرسمية و السياسية و الشعبية في المغرب على أن حكومة المغرب تعاملت باحترافية كبيرة في التعاطي مع العروض المتعلقة بالمساعدات الأجنبية ، و أنها مارست بذلك حقها المشروع و الكامل في تصريف مبدأ سيادية القرار الوطني المستقل .
و بدا المغرب صارما في هذا الصدد ، إذ رغم حدة الحملة الفرنسية التي مثلت محاولات ابتزاز غير مسبوقة ، بأن طالت المؤسسات الدستورية بما في ذلك المؤسسة الملكية ، و التشكيك في الجهود الرسمية في مواجهات تداعيات الهزة الأرضية ، إلا أن ذلك لم يزد المغاربة إلا قوة و وحدة في مواجهة ما تتعرض له بلادهم من طرف قوة استعمارية سابقة .و هذا ما اتضح من خلال الرد المغربي الرسمي على تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية ، التي حاولت جبر خاطر الرباط بأن ادعت أن الرئيس ماكرون تلقى دعوة رسمية لزيارة المغرب ، و لم يبق غير تحديد موعدها .حيث نشرت وكالة المغرب العربي للأنباء بعد ساعات قليلة ردا على لسان مسؤول حكومي مغربي أكد فيه أن « زيارة الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون إلى المغرب ليست مدرجة في جدول الأعمال و لا مبرمجة « بل وعبر المصدر الرسمي المغربي عن « استغرابه لكون وزيرة الخارجية الفرنسية اتخذت هذه المبادرة أحادية الجانب و منحت لنفسها حرية إصدار إعلان غير متشاور بشأنه بخصوص استحقاق ثنائي هام « و يعني هذا الرد بأن الرئيس ماكرون غير مرحب به في المغرب ، و أن المغاربة يرفضون أسلوب المقايضة و الابتزاز .
و هكذا تحول الاهتمام من كارثة إنسانية أصابت الشعب المغربي و خلفت خسائر بشرية و مادية كبيرة جدا ، تمثلت في وفاة أكثر من ثلاثة آلاف مواطن و جرح أكثر من ستة عشر ألف آخرين و تضرر أكثر من 350 ألف أسرة و انهيار أكثر من خمسين ألف مسكن و حوالي ستمائة مؤسسة تعليمية و أضرار كبيرة جدا في البنية التحتية من طرق و قناطر و منشآت اجتماعية أخرى ، و ترتبت عنها أوضاع نفسية صعبة لدى عائلات الضحايا و لدى الرأي العام المغربي ،إلى مجرد لغط بخلفيات سياسية مما يؤشر على تعمد بعض الأوساط الفرنسية استثمار و استغلال فاجعة إنسانية في تصريف و تصفية حسابات سياسية ضيقة جدا .