رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
(شعريةُ المتعةِ بينَ الثابتِ والمتحوّلِ)


المشاهدات 1171
تاريخ الإضافة 2022/11/23 - 7:32 PM
آخر تحديث 2024/03/28 - 1:11 AM

د. صباح التميمي
((تقعُ المتعةُ خارجَ نطاقِ المعرفة، لذا فإنّها تكونُ فوضويةً على نحوٍ خطرٍ)) تيري إيغلتون.
المتعةُ شِعريةٌ من نوعٍ خاصٍّ، تدخلُ في تفصيلاتِ حياتِنا كلِّها، في اللعب، في مشاهدةِ التلفاز، في تصفّحِ أجهزتِنا اللوحيةِ، في الخروجِ باكراً، في رائحةِ الأرضِ بعدَ المطر ِ،  في طعامٍ لذيذٍ، في رائحةٍ زكيةٍ، في نصٍّ شعريٍّ تقرأهُ وتبتسمُ، المتعةُ شعريةٌ عامةٌ تعملُ على تشعيرِ حياتِنا، فتتجلَّى في الأشياءِ التي نراها ممتعةً، والتي نخلعُ عليها صفةَ الإمتاعِ.
 لذا فإنّها نسبيةٌ، تختلفُ من إنسانٍ لآخرَ، يحدثُ ذلكَ في مدنِ الألعابِ أيضا، فقد نختلفُ أنا وأنت في التمتّعِ بلعبةٍ ما، وقد أجدُها لا تؤدّي بنا إلى المتعةِ، بل قد أراها مضيعةً للوقتِ والجهدِ والمال، وهذا يُفسّرُ سببَ مشاجراتِنا الموسميةِ لحظةَ الدخولِ إلى مدنِ الملاهي؛   فالمتعةُ شأنٌّ شخصيٌّ، وقد يكونُ شأناً جماعياً، إذا تمَّ تقييدُه بمعايير عقلٍ جمعيٍّ ما، وهنا سيتحوّلُ إلى عرفٍ ثابتٍ.
فإذا كانتْ في الأشياءِ والحياةِ كما قلنا، فهل تكونُ المتعةُ والشعورُ بها في الكائنِ الشعريِّ شأناً شخصياً ذاتياً أم هي ظاهرةٌ جماعيةٌ؟
يبدو أنَّ المسألةَ تخضعُ لإرغاماتٍ خارجِ نصيّةٍ، فما تجدُه ممتعاً في انزياحٍ ميّتٍ وقعَ في نصٍّ شعريٍّ كلاسي، قد أجدُه أنا مجرّدَ تقليدٍ باهتٍ، لا يُحرّكُ عندي الشعورَ بالمتعةِ؛ لاختلافِ المرجعياتِ الثقافيةِ، والمنظومةِ المعياريةِ التي تخضعُ لها اختياراتُ كلِّ واحدٍ منّا.
شعريةُ المتعةِ فعلُ خلخلةٍ يُحدِثُ تغييراً في عاداتِ استقبالِنا للنصِّ الشعريِّ، هي انزياحٌ تأثيريٌّ، يأخذُ خطَّ سيرٍ يغايرُ ما اعتدنا عليه من التأثيرِ، يسلطُ ضغطاً عالياً على ثوابتِنا لتكسيرِ قواعدِها، وخرقِ مواضعاتِها. 
وهذا يُفسّرُ بلادةَ أشكالِنا حين نقرأُ نصوصاً متشابهةً لشاعرٍ كنّا نحبُّه لاختلافِه،  فقد تتحوّلُ المجازاتُ التي كانتْ سبباً في إمتاعِنا ذاتَ قراءةٍ  إلى كُتَلٍ بلاغيةٍ ميّتةٍ لا روحَ فيها؛ بسببِ إلحاحِ هذا الشاعر ِعليها حدَّ قتلِها، ما جعلَها من المجازاتِ الذُللِ، سهلةِ الركوبِ لغيرِه،  وهذا يُميتُها شيئا فشيئا، وستكونُ أشبه بنسخةٍ ورقيةٍ لهُوِيّةِ أحوالٍ مدنيةٍ، طبقِ الأصلِ، يتمُّ استنساخُها عشراتِ المراتِ، حتى يبهتُ لونُها، وتتهرأُ حافاتُها الحادةُ . 
المتعةُ الناضجةُ لابدَّ أنْ تصدرَ عن انزياحاتٍ واستعاراتٍ ومجازاتٍ ومفارقاتٍ حيّةٍ، تزخرُ بالماءِ والخضرةِ، هي فوضى متجدّدةٌ، لا يمكنُ تعريضُها لتيارِ برودةٍ ساكنٍ، يجمّدُها، فتُصبِحُ أحجارَ شطرنج، يُحرّكُها لاعبونَ متشابهونَ في نصوصٍ متشابهةٍ  .
إنّ الذين يستمتعون بأشياءِ الماضي المكرّرةِ، هم أشخاصٌ ثابتون في حركةِ الزّمنِ، لا يمكنُ أنْ يصنعوا اضطراباً جديداً ممتعاً، والرتابةُ التي يعيشون فيها تولّدُ حالةَ ركودٍ، تنتهي بهم إلى الخمولِ والكسلِ وفقدِ الرغبةِ في الابداعِ والتجديدِ، وهذا سلوكٌ عامٌّ، ألِفَهُ هؤلاءِ، فأصبحَ كُلُّ شيءٍ في حياتِهم روتيناً مُملاًّ، حتى الشعر! إذ تجدُهم يكتبون لأجلِ أنْ يُقالَ عنهم أنّهم كتبوا،  لا لأجلِ أنْ يُجدِّدوا قاموسَهم، ويُحرّكوا مياه شعريتِهم بمجازاتٍ جديدةٍ، الشعرُ كالنهرِ الذي لا مصبَّ له، فإذا توقّفَ جريانُ الماءِ فيه ركد، وماتتِ الحياةُ فيه؛ لذا لابُدَّ للشاعرِ أن لا يكفّ عن رمي الأحجارِ في نهرِ شعرِه حتى يتجنّب الركودَ الذي ينتهي حتما إلى الجفاف والموت .
ولا تتدفقُ هذه الشعريةُ من النصِّ الشعري كلِّه دفعةً واحدةً، بل قد  تقطرُ من فكرةٍ أو من انزياحٍ شاردٍ أو من إحالةٍ عميقةٍ أو نسقٍ مُضمَرٍ أو من معنى مؤجّلٍ أو من كنايةٍ بعيدةِ الغورِ ، أو من استعارةٍ تتنفسُ حياةً أو من مجازٍ ينبضُ، أو من تشبيه لا تَكتشفُ وجهَ شبهِه بيُسر، أو من جملةٍ نافرةٍ، وتركيبٍ غريبٍ، فهي جزئيةُ التشيئِ والتشكّلِ والصيرورةِ في معظمِ ولاداتِها، لكن الشيءَ الذي يبعثُ فيها روحاً جديدةً، ويدلّنا عليها، هو أنّها غريبةٌ عن ركامِ المعتادِ، قلقةٌ لا تعرفُ الثباتَ، ذلك الذي طغى على كثيرٍ من نماذجِ شعرِنا المعاصرِ، حتى أننا في بعضِها نجدُ أنَّ مناسيبَ المتعةِ تنخفضُ فيها  إلى الحدِّ الذي تصلُ معَه إلى العدمِ، وتختفي فيها أسبابُ الإطرابِ والإرقاصِ، فإذا بالواحدِ منّا باتَ يقبلُ على مضضٍ تلقي نصٍّ لشاعر ما ، يحكمُ عليه مسبقًا أنّه يستنسخُ نفسَه، ويكرّرُ صدى صوتِه الماضي، إلا القليلُ النادرُ الذي فيه عزاؤنا .
 


تابعنا على
تصميم وتطوير