محمد جبر حسن
بين ليلة وضحاها انتبه الناس في إحدى القرى إلى أن غمامة كبيرة حجبت ضوء الشمس عن بعض بيوتهم، وأحالت صباحهم ليلاً، لم تستمر هذه الغمامة إلّا ساعات عدة وبعدها تلاشت واختفت، ثم عادت في اليوم الثاني وألقت بظلالها على بيوت أُخرى وانسحبت دون أن يعيروا لها اهتماماً، ورجعت لهم في يومٍ آخر وبدأت تغطي بيوت كثيرة، وأخذت تتوسع يوماً بعد يوم حتى ثبت حجمها وصار ظلها القاتم يغطي كل بيوت القرية التي بدت وكأنها في ليل طويل.
انتبه أهل القرية الى انهم سبق وأن رأوا هذه الغمامة لكن ليس بهذا الحجم الكبير!
سُقط في أيديهم ولم يعرفوا ماذا يفعلون، وكانت أول تداعيات هذه الغمامة أن الناس لم يتعرفوا على مواقيت صلواتهم ولا أوقات نومهم، فاختلط عندهم الليل بالنهار ولم تنفع لإزالة هذه الغمامة ادعية رجال الدين ولا تضرعات الكهول والنساء والأطفال الذين ضعف حالهم وهزلت جلودهم وركّت عظامهم نتيجة عدم تعرضهم لأشعة الشمس، لذلك أمر كبير القرية وبعد التداول مع ندمائه وحاشيته المقربين أن يشعل الناس الشموع ويضيئوا بيوتهم و دروب القرية على مدار اليوم، حينها كثرت بقايا الشموع في البيوت والطرقات و واجهتهم مشكلة جديدة، وهي كيفية الخلاص من هذه المخلفات، فاقترح أحدهم أن يجمعوها ويرمونها في مكانٍ شرق القرية.
يوماً بعد آخر وشهراً بعد شهر وسنةً بعد أُخرى ارتفع هذا المكان وصار تلّاً عالياً من الشمع، ومن ثم أصبح نقطة دالة لهذه القرية البائسة.
وفي ظل ذلك انتعشت تجارة بيع الشموع التي تولى إدارتها ابن كبير القرية وبعض رجاله المستفيدين مثلهُ، وانشغل الناس بأشكال الشموع وبألوانها والأنواع الغريبة منها التي تفنن فيها أصحابها، ونسوا أشعة الشمس وحاجاتهم الضرورية لها.
وبعد مضي فترة صار هناك تقليدٌ جديدٌ، وهو أن يقيموا احتفالاً دينياً بمباركة كبير القرية وكبار رجال الدين في آخر يوم جمعة من نهاية كل شهر عند حافة هذا التل الذي أصبح بعد مرور سنوات مزاراً و أضفوا عليه قدسية غرزها البعض في عقول الناس باعتبار إنه لولا الشمع لبقيت القرية في ظلام بهيم!
رافقت هذه القدسية رهبة وخوف من المساس بالتل الذي حيكت عنه حكايات وخرافات كثيرة، كسماع أصوات غريبة تصدر منه في بعض الليالي، وفي احدى المرات وجدوا قربه جثة رجل قيل انه اراد سرقة بعض الشمع منه فقتلته الملائكة التي تحرسه، وما فتيء التل حتى أصبح مكاناً توفى فيه ا لنذور.
لغاية ذلك اليوم الذي بزغت فيه الشمس وأزاحت الغمامة بعيداً عن بيوت القرية التي دخلها الضوء ثانيةً بعد فترة غياب ليست بالقصيرة، وانتبه الناس على أن تل الشمع قد سال و تلاشى واختفى ولم يتبقَ منه شيء، حينها بدأوا يفركون عيونهم بأيديهم وكأنهم كانوا في سبات عميق.