رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
السَّواري


المشاهدات 1132
تاريخ الإضافة 2021/06/15 - 5:33 PM
آخر تحديث 2024/04/18 - 8:36 AM

 محمد فيض خالد
تَلحظه عينك لأولِ وهلةٍ ، عَجوزا يتبختر في زيهِ العَسكري الكالِح ، مُتباهيا بجَسدهِ الفَارِه  الخَشن ، وملامحه الصَّارمة ، ووجهه البَاسِر الصّلد ، تَتهيّب طلّته العيون ، يرن صوته الجَهوري القَادِمُ من أغوارِ جُبٍّ سحيق ، في قَسوةِ الموتور ، مُحذِّرا أرباب الدّور الفقيرة ؛ من التمادي في السَّهرِ لوقتٍ مُتأخر ، اُقسِمُ أن النّاس باتوا يخشون حصانه الأحمر ، كخشيتهم “ عبدالعزيز السّواري “ أو أشَدّ خشية ، رأيته لأولِ مرةٍ ، كُنتُ صغيرا اجري خلفَ عَنزاتٍ فوقَ ترابِ الصَّليبة ، كعادتهِ لم يعبأ بي ، يُلهب ظَهرَ حصانه بقطعةِ جلدٍ سميكة ، فهذا أوان مروره اليومي مُذ عَرفناه ، يُعانِد الرِّيح ، يُسَابِق حِوَم الطّير العائدة لأوكارها عِندَ المَساءِ ،يُطالِع الفضاء في شُموخٍ  وجَهَامة ، وكأنّما خُلِق الوجود لنظرهِ كي يتجول ، لم استطع لزمنٍ التحقق من مَلامحهِ الغليظة  ، واتتني الفُرصة ذاتَ صَباحٍ، وجدتني وجها لوجهٍ مع ذاكَ المارد العجوز ، انتابتني قشعريرة جَفّ  لها حلقي ، ظَهرَ الخَلاءُ  في صمتهِ المُفزِعُ ،  وكأنّما يطنّ بنشيدٍ سخيف الكلمات ، اقترب مني يطلب إناءً يسقي دابته ، مرّ الوقت كأصعبِ ما يكون ،  من جديدٍ  جاهدت كي اتمالكَ شتات نفسي  ، على مهلٍ  أخذت  اتفحّص المخلوق الواقف في صَلفٍ ، تَبدّدت أحلام الصّداقة بيننا ، وأنىّ  يكون هذا و” السّواري “ لم يتخذ له صديقا أو سميرا ، ولا تُعرف له عائلة منذ قَدِم، تركت أفكاري الوجلة للحظاتٍ تَرتعُ في الفضاءِ الأخضر ، علّي انفض عنها بقايا خشوعٍ وإكبار ، في ضيقٍ وَتبّرم نَفَضَ عن سترتهِ العسكرية غُبار الطّريق ، بدت أزرارها النّحاسية التي كساها الجنزار لعقود ،  عيونا  وقحة ترصد في تبجحٍ   كُلَّ من حولها ، تسابقت أصابعه الطِوال ، تُخلّل في هدوءٍ زوايا شاربه الفضي،  في رزانةٍ يفتل شعراته الشُّهب ، بدت كنصل سكينٍ حاد، في هاتهِ اللّحظة أطلّ من عينيهِ الغائرتين بريقٌ أخاذ ، زَادَ  من سُمرةِ أخاديد وجهه الأعجَف  ، غيرَ أنّ شفتيه الغِلاظ حين ابتلعتا لفافة الدّخان ، أمّنت على كلامِ “عبدالعزيز الطّحان “ حينَ صَرَحَ ذاتَ مساءٍ ، وهو يتناول غرارة القمح : إن “السّواري” قادمٌ من مجاهلِ الصّعيدِ ، لقد قضى بمفردهِ في ليلةٍ واحدة ، على خمسين من عُتاةِ اللّصوصِ ،  منذ مطلع الشّمس حتى المغيب و أقاصيصه  تلف الحقول ، فتزيد من جسارتهِ بشكلٍ مروّع، لعلّ أشدها ضراوة تلك التي تزامن صُفرة الفضاء ، وهو يستقبل سحنة المساء القادِم من خلفِ أشجار الكافور العتيقة ، المُلاصقة لماكينةِ المياه المهجورة ، يقصّها الجَمعُ العائدُ من فوق ظهورِ الجاموس ، سمعت من طَلَقَ امرأته ثلاثا ؛ إن “ السّواري” ارضعته أمه لبنِ  ذئبةٍ ، وتلك الرّضعة خلقت منه شَبحا ، لا يَهاب اللّيل، ولا يخشى الظّلام ، ولا يعتد بالذئابِ التي ألفته كابنٍ من قطعانها ، تراه يُبعثِر نظراته كذئبٍ عجوز ، يحتويك باصفرارِ حدقة عينه الأخاذ ، لا يشعر بغضاضةٍ أو استنكاف ، حينَ تراه ينهر فلاحا بلكنةٍ صعيديةٍ جافة ، وعصاه  الخيزران الرخوة ، تَشقّ الهواء ، فتيّبس  الدّم في العروقِ ، يحسب له الخفر ألف حساب ، يدور الكلام عن أنّ له عدوا في كُلّ قريةٍ  ، من أبناءِ الليل وصغار المنصر ، لا تزال أمانيّ “ مخيمر الخفير “ حاضرة ، تُخالِط سُعال صدرهِ  الرّطب ، ويده مرفوعة بالدّعاءِ ساعة المغيبِ ، قابضا بيدهِ غابة الجوزة ؛ أن يُمكِّن منه أبناء “ الجبلاوي “ ، قال : لقد تمكّنوا منه ، فاحكموا وثاقه أيام الذرة ، فلمّا غوّرت النّجوم واسحر اللّيل ، اختطفه حصانه ، وطَارَ بهِ حتى ادخله النقطة ، زارَ قريتنا بائع الرّباب ، سِرنا كعادةِ تلك الأيام خلفه ، نتلهّى بينَ الأزقةِ بألحانهِ الصاخبة ، قال في نبرةِ الخَبير : إنّ شعرة من ذيلِ حصان “ السّواري” تعيش عُمرا في أيةِ ربابة ، ظلّ هاجسا يُنازِع خيالي المتحفز كلّما شاهدته ، لكنّ الجُبن المُورِق فينا، يقطع عني كُلّ وسيلةٍ لنيلِ الشّعرة ، حتى لحظتنا هذه . 
تبرّمت الأيام في جفوةٍ كعادتها ، تبدّلت أحوال الدُّنيا وأهلها ، فامتلأت الجُسور بعرباتِ الحكومة تجري طول النّهارِ  ، لم يعد “ للسّواري” أثر ، ودّعت قريتنا مُنذ أيامٍ ، آخر أبناء  رعيلها  الأول ، وبغيابهِ خلت المجَالس  من تردادِ سيرة “ السّواري “ ،  تنكّرته الأجيال فيمن تنكّرت ، ليصبح اسمه أثرا بعد عينٍ ، ويطوى في ذاكرةِ الأيام.


تابعنا على
تصميم وتطوير